قضايا

المربعات الصغيرة ذات الأسئلة الكبيرة

عبد الغني فوزي

تصنف الكثير من المقالات الصغيرة طينتها ضمن خانة العمود الصحافي الذي أصبح يفرض نفسه اليوم في وسائل الاتصال والتواصل العامة، وبالأخص ضمن الإعلام المكتوب؛ وهو ما يقتضي التأمل في هذا النوع الذي ينهض على خصائص تشكيلية تختلف في التوظيف والبناء. وبالتالي، فكتابة العمود أو المقال لا تتأتى لأي، رغم طغيان مساحات الأعمدة الصحافية المفتقرة للدعائم اللغوية والثقافية، ما يثبت الفقر المدقع في المداخل الضرورية لهذا النوع من الكتابة، ومنها بالأساس الوعي المتعدد بالثقافة والتاريخ والسياسة للأمة التي ينتمي إليها الكاتب ضمن الرياح الصاخبة والجارفة للحضارة الإنسانية.

وفي المقابل، كثيرة هي الأعمدة الجميلة في الصحف والدوريات العربية التي تبرهن عن الأسلوب المتماسك من خلال لغة سليمة، عذبة المفردات، تمتد من بلاغة العنوان، لجذب القارئ، إلى تمهيد للفكرة عبر مقدمة مختصرة صقيلة، فالرأي من خلال جدل ومحاورة تطلق رسائل في كل الاتجاهات، ثم الانتهاء إلى خلاصة منطقية، يؤكد فيها الكاتب على أفكار مفاتيح تبقى راسخة ومجلجلة كما الأجراس. هنا، يمكن القول إن العمود يقدم مادة للتفكير، تستوجب تفاعل القارئ، قصد الانخراط في الرصد، ضمن أفق من الاختلاف والحوار المتبادل.

وغير خاف أن العمود مقال قصير، يتصف بالتكثيف الدلالي واللغوي. طبعا يختلف ذلك في الأسلوب والطريقة من كاتب لآخر، تبعا للخبرة وشبكة المعرفة، هذا فضلا عن الإلمام بناصية النوع الذي نكتب ضمنه وبه، أي تقنيات التحرير الصحافي في اللغة والأسلوب. وهذا يحيلنا بقوة الذاكرة على أعمدة كتاب عرب كمصطفى أمين وعموده "فكرة"، وأنيس منصور و"مواقف"، إضافة إلى صالح منتصر وعموده "مجرد رأي" وآخرين...

ويمتد الأمر إلى كتاب يطرقون مسامعنا ويفتحون أبصارنا اليوم بالشيق من الكلام والحكيم من الصياغة حول قضايا العصر وإشكالاته العديدة، كمحمد برادة وأدونيس وسيف المري وأمجد ناصر، وصلاح بوسريف، ونوري الجراح...وهو ما يثبت بالملموس أهمية العمود على الصعيد الإعلامي والصحفي، نظرا لثراء النص المتشابك والمضغوط في كتابته وتأليفه. ولا يمكن كتابة هذا النوع من فراغ وعلى ضحالة. في المقابل، يضع ذلك الكاتب أمام مسؤولية جسيمة في اختيار الفكرة وتقديمها عبر حلة ذات خصائص وأهداف. لأن العمود يسعى إلى التوجه إلى القارئ أساسا بمختلف شرائحه وجذبه كمنصت ومتابع لما يعتمل في محيطه المحلي والدولي. لكن، بلغة "ثالثة" إن صح التعبير، تجنح للإيضاح دون السقوط في التقريرية الفجة التي تقتل بلاغة الإمتاع التي تحمل داخلها إقناعا ما.

من جهة أخرى، فالمقال كان دائما ماثلا في تلك الشرارات المختصرة التي تمنح حيوية داخل الثقافة وتفكير الأمة في قضاياها. من هنا يمكن استحضار أدب الرسائل في تراثنا الأدبي مع ابن المقفع والجاحظ في مقالاته الساخرة التي تدرج على اليومي، فتلونه في سخرية نفاذة، ومع أبي حيان التوحيدي في "الإمتاع والمؤانسة" في نتف موحية بلغة شائقة ورائقة. وفي الآن نفسه، فالمقال تطور في شكله وتشكيله مع ظهور الصحافة بالغرب في القرن السادس عشر، ثم انتقل إلى الأمة العربية في أواخر القرن التاسع عشر بفعل الاحتكاك الثقافي.

يشخص كاتب العمود المفارقات عبر مقال موضوعي، ينصب بالأساس على الموضوع الذي يتمثل أساسا في فكرة واحدة، يقوم الكاتب بفحصها وتقليبها من زوايا مختلفة، تبعا للوضعية والسياق التاريخي والاجتماعي..في هذا الصدد، يورد صاحب هذه المساحات معلومات تفسر وتخبر، لامتلاك حواشي حول الفكرة الصميم في كل مقال. بهذا فالكاتب لا يختفي أو يتخفى، ولكنه يعلق ويصف عن حرقة، لأن الفكرة لماحة لقضية أو مسألة جوهرية ومصيرية. وفي هذا الشأن، تكون هذه المقالات كدعوة صريحة للتأمل في تأسيس لفضيلة الحوار والنقد المفتقدة على أكثر من صعيد في الحياة العربية. وتكون الثقافة هي الخاسر الأكبر، لأنها تفقد قيمها الأصلية والأصيلة وتدخل إلى معمعان الرائج والسائد؛ هنا يمكن الحديث عن أشباه المثقفين والمبدعين.

تسعى الأعمدة بهذا الكل المتآلف إلى لفت نظر القارئ إلى محيطه وفتح أبصاره على المفارقات، من خلال عرض ومناقشة تستحضر الأهم وتتفادى الجدل العقيم مع آراء لا أفق لها. لهذا قد تذهب هذه الأعمدة إلى الصميم، قصد وضع مادة للتأمل والحث عن حلول آنية ولو من خلال عتبات العناوين.

أعطيت الوجه اللامع للعمود، لهذا ينبغي الاعتراف بكافاءات معرفية وثقافية جميلة. لكن الكثير من هذه الأعمدة التي تملأ الساحة الآن تنط دون ثقافة، ودون عدة، في غياب لجماليات العمود، قصد التأسيس للإطلالة مخصوصة على العالم. فيطغى الكلام الإنشائي دون تشكيل وأفق.