تحليل

لمن تقرع أجراس الصحافة؟

بوسلهام عميمر

ولمن تكسر أقلامها ويراق مدادها على صفحات الصحف والجرائد المكتوبة أو الإلكترونية؟ بعد إذن إرنست ميلر همنغواي، الكاتب والصحافي الأمريكي، طبعا على اقتباس جزء من عنوان إحدى روائعه الروائية "لمن تقرع الأجراس؟"، الذي اقتبسه هو الآخر من كتاب تأملات لجون دون (1624) الذي أكد فيها أننا لسنا جزرا مستقلة بذاتها؛ بل إننا جزء من كل، إلى أن يقول: "ولذا، لا تراسلني أبدا لمن أقرع الأجراس. إنها تقرع من أجلك".
يرحم الله الفرزدق لما قال يوما "إن خلع ضرس أهون علي من قول بيت من الشعر". فليس عبثا أن تقترن الكتابة أو أي إبداع بالولادة، بما تعنيه من مشاق الحمل وكرهه بالتعبير القرآني، وبما يصاحب الوضع الطبيعي فضلا عن القيصري من آلام الطلق والانقباض والتشنجات والتقلصات القوية مع ما يمكن أن يحدث من تمزقات عضلية ونزيف وغيرها من مخاطر.
فمقارنة الفرزدق بين خلع ضرس وكتابة بيت شعر لم تكن عبثا. إنها صادرة عن خبير، عُرِف بمنازلاته الشعرية مع كل من جرير والأخطل فيما يُعرف بالنقائض.
يقول أهل اللغة: "لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث العربية". فبماذا والحال هاته من المعاناة في كتابة مقالة أو إنجاز تقرير أو إجراء حوار أو الحصول على معلومة خاصة في انتظار التنزيل الكامل لهذا الحق المنصوص عليه في الفصل الـ27 من دستور 2011، فكيف نقابل نحن قبيلة القراء ما تُسوِّد به الجرائد صفحاتها ليكون ناجزا بين أيدينا صباح كل يوم؟
فهل نقدر حقا ما يكابده أي صحافي حق قدره فيما ينجزه، أم نمر عليه مر الكرام؟
فهل نسعى إلى تلقيه بما هو في مستوى ما يعانيه حتى تخرج مادته في أكمل حلتها، أم نقابله بمنتهى الصدود والاستخفاف، للأسف على عادة أكثريتنا؟
أعتقد أن الحال يغني عن المقال، فنسبة كبيرة تسارع بإصدار أحكام قيمة جاهزة، حتى بدون إعطاء المنتوج الصحافي عشر معشار ما يصرفه أي كاتب من وقته ومن جهده لتدبيج مقالته بالنظر وإعادة النظر والتدقيق فيها شكلا ومضمونا والحرص على تجنب نقط التماس مع الخطوط الحمراء بما أنه يمشي على حد السيف.
فكم هم للأسف من النخبة المتعلمة، المفروض فيهم تقدير أي عمل صحافي قدره، تجده يقلب صفحات الجرائد على عجل، فيسارع بوضعها جانبا بدعوى أن ليس فيها ما يستحق القراءة اللهم إلا إذا تضمنت ما يهمه شخصيا مما يتعلق بترقيته أو الزيادة في راتبه. هكذا بجرة قلم يعدم مجهود عشرات الكتاب بمختلف المنابر الإعلامية، بدون أن يكلف نفسه عناء قراءة بعض موادها قراءة متأنية، حتى إذا أصدر حكما تجد فيه نصيبا من المصداقية وقسطا من الموضوعية.
ألا يعلم هؤلاء أن الصحافة، بكل تلاوينها، ترتبط بالفعل الديمقراطي منذ نشأتها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ارتباط الإنسان بظله، عندما قال المفكر الإنجليزي الإيرلندي أدموند بروك قولته الشهيرة أمام مجلس البرلمان البريطاني: "ثلاث سلطات تجتمع هنا تحت البرلمان؛ لكن هناك في قاعة المراسلين تجلس السلطة الرابعة، وهي أهم منكم جميعا". فعلى الأقل أن ندعمها نحن القراء بما يؤهلها لتأخذ مكانتها الحقيقية بين بقية السلط، إذ بدونها لا يمكن تصور بناء الصرح الديمقراطي الذي يتوخاه كل مواطن، بما أنه صمام أمان الشعوب والضامن لحقوق مواطنيها بمختلف مرجعياتهم وأيديولوجياتهم وأعراقهم.
فكم من متلق بدل تركيز عدسة فكره على المكتوب والمضمون، تجده يصرف كل اهتمامه في البحث في شخص الكاتب، من يكون وما هو أصله وفصله وشجرته، ومن أي تيار هو، ومن أي قبيلة سياسية. وحتى إن احتفظ بها بيده يقلب أوراقها، ففقط في انتظار وصول مجموعته، ليتخلص منها ضاربا عرض الحائط مجهودات مضنية لعشرات المواد المتنوعة سواء لأطقم الجريدة أو المتعاونين معها أو لكتاب الرأي فيها. مما يجعله، وبدون وعي منه، يُمَوضِع نفسه ضمن أسفل القائمة على خريطة القراء المعروفة، بما أنهم ليسوا طبقة واحدة بتعبير ابن المعتز في طبقات الشعراء؛ أدناها هؤلاء الذين يبخسون عمل كل المنابر، وأرقاها طبقة القراء الواعين المدققين ممن يتعاملون مع أي منتوج صحافي بنسبة مهمة من الموضوعية، مرورا بقارئ العناوين وبعض القصاصات الإخبارية، لكن دون التنقيص من قيمة أي منبر إعلامي. فما أحوجنا إلى صحافة قوية مدعومة من قرائها، حتى تضمن استقلاليتها لتكون فعلا سلطة رابعة لها وزنها وتأثيرها المطلوب.