تحليل

من وحي الحياة..!

مصطفى غلمان

سأل الممكن المستحيل: أين تقيم؟ فأجابه: في أحلام العاجز
سألني ابني المهند: كيف نفكر؟ وماذا نتذكر؟
استدعى ذلك مني تفكيرا مزدوجا في التوجيه والإقناع ..
قلت له (طبعا مع تبسيط العبارة): الطاقة الخلاقة للحدس الإنساني هي مكمن الذاكرة ووعاؤها الحصيف.
لو كنا ندرك قيمة هذه الرؤية لانشغلنا طيلة بحثنا الحثيث عن نهر الحياة بالجري وراء جهد العقل ونظامه الإبداعي الفوار؛ لكننا يا للأسف تركنا ذلك كله واعتلينا قبلة الفرح عند كل (تخريجة) من حفظ المتون إلى ترسيمها على لوح محفور، في وعاء يرسم حدودا للفهم والسؤال ومآلات التفكير والتعبير والاستسلام النهائي!
أتذكر أني أحببت أن أكون متفوقا عند حاجة والدي لهذا النوع من الانتصار.
كنت أشك في مبدئية هذا الانصياع الروحي، قريبا من فكرة الإيمان، وبعيدا عن ترميم حالات اللايقين ..
كثيرة هي القضايا التي نالت حظها من الالتفاف والتدوير والتفكيك، لكن بإزاء ذلك هناك تصريفات من القلق النفسي والارتياب الإشكالي الذهني كانت تضعني في مواجهة غضب أبي وعتاب أمي..
لكن حتما كنت على يقين بأن قناعتهما الخفية والمتحدرة من تجربة روحية ووجدانية عميقة ودالة كانت وراء وقوفي وامتلائي، إلى جانب كونهما يعتبران بالنسبة لبدايتي الفكرية نموذجا حماسيا دالا على الاحترام والتقدير والاعتزاز..
نعم، نحن نتذكر دوما لأننا نريد ذلك بقوة حضور الحاجة؛ أما النسيان فهو انسحاب إلى اللاوعي، خصوصا إذا كانت فكرة العيش تستدعي التبديد وصناعة اليأس.
في الألم كما في الحب هناك طاقة هلامية تستبيح فينا القدرة على النسيان؛ لكن الوعي به أحيانا ينزاح بنا إلى الهروب من الحقيقة، مثلما هو قدر الموت لا نستطيع الحصول على يقين من / في سؤاله الزمني وغموض حلوله واحتياله.
كنا نسمع دائما على سبيل المزاح كلاما يجمع المقامين السابقين: اهدني نسيانا ثم ارحل إن شئت!
لحظة النسيان هنا مطلوبة ومرغوب فيها، لكن تغييب صاحب الفضل فيها يحيل على النقيض، كأن النسيان عتمة منسوخة ترفع حجب الوعي وتتلظى بنيران الخوف وبطء نياط الأمل..
أحيانا يكون من اللازم والأكيد استيعاب دروس الفشل. لا يعني ذلك بالمطلق وضع الأسلحة جانبا والعوم باتجاه العدم.
فالسقوط المتتالي يهشم حالة التفكير ويؤخر وازع النظر في المستجدات والبدائل الجديدة. كما أن الابتعاد عن فعل التغيير واستحضار مقاصده وخلفياته يراكم الاختلالات ويعرقل سبل النهوض بها ومعالجتها.
لهذا كنا دائما نحتمي بالتردد على تجارب الآخرين، وتصويب حدوسنا باتجاهها، مكاشفين حدود التعلم منها والتوسل بها ومبارزتها أحيانا.
وكان من بين أهم تجسيد هذه الشواهد إدماج قيم القراءة والكتابة في إواليات هذه الممارسة، باعتبار ذلك نوعا من التوجيه البيداغوجي الراقي، الذي ينفعل ويتفاعل مع الكتابات والتجارب الإبداعية بما هي نبض ومعرفة ثقافية ووجدانية ضاربة في غور الحياة ومغارم الدهر. فالحياة على الدوام صراع ومآل مجهول وعبث قاصم وابتلاء مخيف.
من بين أجمل ما قرأت:
"الحياة تعني أن نعيش في خطر! صدقوني إن السر الذي يجعل الوجود ممتعاً ومثمراً هو أن تعيشوا في خطر! فلتبنوا مدنكم تحت بركان فيزوف! ولترسلوا سفنكم إلى البحار المجهولة! ولتعيشوا في حرب مع أندادكم ومع أنفسكم! ولتكونوا غزاة مادمتم لا تستطيعون أن تكونوا حكاماً ومالكين".