تحليل

فضيلة الاعتراف

عبد الرحيم الفارسي

أعترف بأنني أخطأت القراءة. لكنني لست وحدي في ذلك.

منذ البدء كنت أرجح كفة تأهل المرشح الرئاسي عبدالكريم الزبيدي، وعبدالفتاح مورو ويوسف الشاهد ونبيل القروي إلى الدور الثاني من الرئاسيات في تونس.

بنيت قراءتي على معطيات عدة، وكان الزبيدي يأتي دائما في المقام الأول أو الثاني.

استمعت إلى محللين غربيين. واعتمدت على شعبية الزبيدي في أوساط الجيش الذي خدمه من موقع وزير الدفاع. قلت إن مورو قد يمر لأنه مرشح حركة النهضة، والنهضة أنهكتها المشاركة في الحكم وعرت الكثير من عوراتها، ولكنها لم تفتتها تنظيميا إلى حد التشظي. قلت إن الشاهد دخل المعترك من موقع رئاسة الحكومة، ولربما يملك تحريك بعض الأدوات العمومية لصالحه، ويستغل معرفته  بالملفات والخبايا ليكون ذلك كفيلا بإقناع شريحة ما من الناخبين لصالحه. ثم نبيل القروي قد تشفع له نشاطاته الخيرية ونفوذه المالي والإعلامي وتعاطف فئة من الناس بعد اعتقاله في اللحظات الأخيرة التي تسبق بدء الحملة الانتخابية.

لقد أخطأت في قراءاتي كثيرا.

قلت مع نفسي إن الزبيدي ابن الدار الحاكمة، وقد يحصل على تعاطف العسكر وأمنيي وزارة الداخلية. لكنني لم أقم بعملية حسابية صغيرة، فقوام الجيش بكل أسلاكه لا يتجاوز سبعين ألفا. أما عدد المسجلين في القوائم الانتخابية فيتجاوز سبعة ملايين.

ظننت أن عناصر الداخلية قد يساهمون في الدفع بالزبيدي رغم بعده عنهم في فترة تحمل مسؤولية وزارة الدفاع، لكنني نسيت في الحالتين كلتيهما أن الانتخابات حرة ونزيهة وأن عهد التزوير الفاضح والتفصيل المسبق للخريطة الانتخابية في تونس قد ولى وانتهى.

كنت أمر على اسم قيس سعيَّد فأتخطاه دون الوقوف ولو لثانية. بالنسبة لي هو مجرد مثقف ورجل قانون دستوري وخطيب مفوَّه في قنوات التلفزيون، تماما كما هو حال الكاتب الصحفي الصافي سعيد. ونحن في زمن يوضع المثقف فيه في خانة المرثِيٍّ لحالهم، بينما يتصدر المشهد الشعبيون والأفاقون والمحتالون والسطحيون وكل من امتطوا سلًًّم الإسفاف. 

لقد أخطأت.

قلت بما أن نبيل القروي رجل أعمال كبير، فسيحاربه الإسلاميون الذين نازلهم بشراسة في مجال الإعلام، ويناهضه اليساريون، و وينبذه أهل الوسط وعائلات أغنياء اليمين التي تتصارع على النفوذ وتتقاسم الثروة منذ الإطاحة بنظام الباي أمين عام 1957.

لقد أخطأت قراءتي أيضا.

كنت أتوقع نسبة مشاركة في الانتخابات لن تتخطى في أحسن الأحوال عتبة الخمسين في المائة، لأن الحملة التي سبقتها كانت باهتة، والناس كانوا يشاهدون مباريات كرة القدم حينما كان المتنافسون يقفون في صف واحد بنظام وانتظام خلال المناظرات التلفزيونية التي هلل لها الإعلام التونسي كثيرا وتجند بقوة لإنجاحها.

 في هذه أصبت.

لكنني لم أقرأ المشهد السياسي التونسي جيدا. لم أقم بعملية تحديث update ضرورية لفهم الصورة باقتدار. ربما لأن قراءاتي لازالت تحت هيمنة المشهد الذي أفرزته مراحل الاستقلال عن فرنسا، وظهور أحزاب وحيدة تحكم، وأخرى رديفة تدعم، وثالثة معارضة تتخندق خلف موقفها، وخامسة تعمل في السر.

لما أعلنت مؤسسة (سيغما كونساي) لاستطلاعات الرأي مساء 15 سبتمبر 2019، بعد فترة قصيرة من انتهاء فترة التصويت، عن تقدم المرشحين قيس سعيَّد ونبيل القرْوي عمن سواهما من المرشحين الستة والعشرين المسجلين في القائمة، أصابنا الذهول جميعا. لم أصدق ما سمعته. كنت أسير في المركز الإعلامي الذي أقامته الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بقصر المؤتمرات في شارع محمد الخامس، فإذا بأحد الإعلاميين التونسيين الكبار يقترب مني، عانقني بحرارة، ثم قال"يا أخي السيستام سقط".

في تونس يسمون الجهاز الحاكم بالسيستام systeme، في الجزائر ينادونه بالحُكم أو Pouvoir، وفي المغرب يعرف باسم المخزن.

إنها مؤسسات ثلاث تتشابه في ما بينها، وهي التي تسهر على إدارة الدولة وتنتقي الكوادر وتؤطر الحياة السياسية والاقتصادية والثقاقية والأمنية وغير ذلك من مناحي الحياة.

يقول صاحبي التونسي"لأول مرة يتسلل أشخاص من خارج السيستام".

ييدو أننا تأخرنا جميعا في تحديث القراءة.

نسينا أن الأحزاب بشكلها التقليدي الذي يعتمد على المنشورات الداخلية والصحف الحزبية والاجتماعات الروتينية البيروقراطية، وعلاقات الزعيم بالأنصار والمريدين، ومناورات الطامحين للمسؤوليات الحزبية في اللجان المركزية والفروع، والمتهافتين على المناصب والمغانم قد انتهى مفعولها وأصبحت أشكالها متجاوزة.

نسينا أن مليونين من الشباب الذين سجلوا لأول مرة في قوائم الناخبين كانت أعمارهم لا تتجاوز عشرة أعوام حين تحطم صنم الرئيس الأبدي الذي يجدد له مخرجو مسرحية الانتخابات كل خمسة أعوام. نسينا أن شباب عام 2011 اشتغل عبر فيسبوك بكثافة لاطلاع الداخل والخارج على الاخبار والصور ومقاطع الفيديو المصورة بالهواتف المحمولة.

لقد أصبح فيسبوك بدوره الآن مجرد موقع من بين آلاف من المواقع ومنصات التواصل الاجتماعي الرقمية.

مشاركة الناخبين في اقتراع الدور الأول من الانتخابات الرئاسية لم تتجاوز 45 في المائة. قد نفهم الرسالة الآن. لكن من شاركوا في هذه النسبة هم من المثقفين الذين رأوا أن سعيَّد قريب من مستواهم، ومن صوتوا للقروي رأوا فيه من يعطف عليهم.

في مساء اليوم الانتخابي كنت واقفا وسط شارع بورقيبة على مقربة من مقر وزارة الداخلية الكئيب المحاط بالحواجز والأسلاك الشائكة. كانت بقربي شابة ترضع ابنتها، ومعها أمها وصديقة لهما. سألت الشابة إن كانت قد أدلت بصوتها في الاقتراع فقالت "لا ولن أشارك. كلهم لصوص يتقاسمون الكعكة بينهم. ما أريده هو الحصول على وظيفة. أنا خريجة جامعة وأعاني من البطالة منذ سنين".

فهمت رسالتها، لكن ذلك كان بعدما قررت صناديق الاقتراع مصير الدور الانتخابي الأول.

لقد شهدت تونس منذ رحيل بن علي عن قصر قرطاج عددا من المحطات الانتخابية. شارك التونسيون في البداية بكثافة، ثم بدأ الحماس يتلاشى.

ما الذي حدث في السنوات الثماني الأخيرة؟. لقد تأكلت الطبقة الوسطى، واشتدق الخناق على الطبقة الفقيرة. وماذا عن أثرياء البلد؟. كل الأغنياء إما راكموا ثروات على ثرواتهم، أو بقوا في المستوى الذي كانوا عليه في زمن بن علي وحزب التجمع الديمقراطي الدستوري الحاكم من قبل.

عقب اعتقال القروي تداول التونسيون نكتة مفادها أن البلاد ستشهد أزمة في مادة المكرونة.

للقروي جمعية تحمل اسم (جمعية خليل تونس) استحضارا لروح ابنه خليل الذي توفي في حادثة سير عام 2016. تقوم هذه الجمعية بأنشطة خيرية لفائدة الفئات الفقيرة، فتوزع الأغطية والألبسة والمساعدات الغذائية كالمكرونة، ثم تقوم قناة نسمة التلفزيونية التابعة للقروي ببث فقرات عن هذه الانشطة.

تشير البيانات إلى أن منتجع (عين دراهم) الطبيعي بأقصى شمال غربي تونس، شهد تصويت عدد كبير من ناخبيه على القروي.

سكان هذه المنطقة السياحية الطبيعية والغنية بثرواتها، يعانون من فقر شديد وتهميش إلى حد أن الناس يعتبرونها أكبر مصدر لخادمات البيوت نحو الولايات الأخرى.

الذين صوتوا للقروي لا يهمهم برنامج الانتخابي، ولا ثرواته العظيمة، ولكن يهمهم ما قدمه لهم من مساعدات في الوقت الذي تخلت عنهم الدولة والحكومة والأحزاب المتصارعة على السلطة.

يقول محللون إن فئة عريضة ممن صوتوا للقروي في عموم البلاد إما أميون أو ذوو وعي سياسي محدود. لا أستطيع الجزم في مدى مصداقية هذا التحليل.

لكن بالله عليَّ أنا الذي أخطأت قراءة المشهد، لماذا لم أسأل نفسي عما يريده الناس في مجتمعاتهم؟. ألا يعد تقديم خدمة طبية وتوفير الطعام والملبس والغطاء عند الحاجة، مطلبا أساسيا لكل فرد؟.

ألم يكن عجز الحكومة التونسية عن توفير وظيفة لتلك الأم الشابة سببا في عزوفها؟.

لقد وضع الاختيار بيد الشعب التونسي، فاختارت نسبة 55 من ناخبيه الإحجام  عن ممارسة هذا الحق، واختارت فئة لا بأس بها ممن أدلوا بأصواتهم أن يعاقبوا "السيستام"، بانتقامهم من أحزاب "السيستام"، وسلاحهم في ذلك هو  الانتخابات التي أقر مراقبون دوليين كثر بأنها كانت نزيهة على العموم، وحرية الناخب المطلقة في انتقاء من يشاء من المرشحين.

فهل استوعبت الدرس أم ليس بعد؟. سأحاول القيام بعملية update مستقبلا لبياناتي. لكنني أخطأت ومعي دبلوماسيون وصحفيون غربيون وصناع قرار، ومثقفون تونسيون.