تحليل

تقرير "مجلس الحسابات" .. نقاش قانوني وسياسي

محمد الخمليشي*

أصدر المجلس الأعلى للحسابات تقريرا لأنشطته برسم السنة المالية 2018. هذا التقرير عرف تداولا واسعا في مختلف المنابر الإعلامية. وهو توجه مثمن نظرا لمستويات التفاعل معه، وكذا مضمون وحجم الانتقادات التي واكبت مضامينه في أوساط النقاش العمومي، بعدما كانت هذه المؤسسة شبه غائبة عن الرأي العام لعقود.
ويعتبر إعلام الجمهور بنتائج الرقابة من أهم المعايير الدولية للرقابة المالية، لأنه يرتبط أساسا بالشفافية والوظيفة الديمقراطية لتدبير الشأن العام داخل الدولة، الذي يقتضي حق معرفة المواطن بنتائج مساهمته الضريبية، خصوصا بالنسبة للدول التي تعتمد على الضريبة كمورد أساسي للميزانية العامة. لذلك نجد في بعض الدول المتقدمة أن تقديم نتائج وخلاصات أجهزتها العليا للرقابة المالية يتم في مؤتمر صحافي قصد إخبار المواطنين، كما هو الشأن بالنسبة لمحكمة التدقيق الألمانية.
والواقع أن ردود الفعل والمطالب التي يخلفها نشر تقارير المجلس الأعلى للحسابات تحتاج إلى توضيح دقيق، يفرض بالضرورة تأكيد نمط تحديد مسؤوليات المدبرين العمومين والجهات المخول لها حق إثارة هذه المسؤوليات، بناء على نتائج رقابة هذه المؤسسة الدستورية. وذلك تلافيا لأي جدل أو توظيف سياسي لنتائج وخلاصات التقارير، مثلما كان يحدث في فرنسا. فالمشرع الفرنسي، تفاديا لاستغلال وتوظيف تقارير الملاحظات أثناء الفترات الحساسة من الحياة السياسية، اقترح فترة حياد قبل الاستحقاقات الانتخابية لنشر التقارير الرقابية، وذلك بمنع نشرها أو إرسالها إلى الأشخاص المعنيين خلال فترة الثلاثة أشهر قبل هذه الاستحقاقات، حتى لا تستعمل نتائجها في الحملات الانتخابية.
من خلال استقصاء مختلف الطروحات والمطالب التي تداولتها وسائل الإعلام المغربية حول نتائج وخلاصات التقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات، يلاحظ أنها تركزت أساسا على الدفع في اتجاه متابعة المسؤولين عن تدبير المرافق والأجهزة والمشاريع العمومية، خصوصا بالنسبة لحجم الاختلالات الواردة فيه. وعلى أهمية هذا التفاعل والتركيز على ضرب أيادي المبذرين للمال العام. غير أنه يتعين توضيح كافة الأسس القانونية التي تؤسس لمشروعية المتابعات، وتحديد طبيعة المسؤولية، هل هي جنائية أم تأديبية أم سياسية؟ ثم من هي الجهة المخول لها قانونا حق تحريك تلك المسؤولية؟
المحول الأول: نمط تحريك المسؤولية الجنائية والتأديبية
سبق لمسؤول حكومي سابق (وزير العدل) أن قال في تصريح صحافي، بمناسبة صدور التقرير السنوي لأنشطة المجلس الأعلى للحسابات لسنة 2014، إنه سيعمل على متابعة المدبرين العموميين، وذلك بناء على ما ورد في خلاصات وتوصيات هذا التقرير، باعتباره رئيسا للنيابة العامة آنذاك (أصبحت النيابة العامة مستقلة عن وزير العدل في التعديلات التشريعية الأخيرة).
هذا التصريح يتوافق تماما مع النقاش العام الحالي، الذي مفاده أنه يجب تكريس المتابعة الجنائية والتأديبية للمسؤولين المتورطين بناء على ما ورد في خلاصات تقرير المجلس الأعلى للحسابات. لكن هذا القول يحتاج إلى تدقيق قانوني، لتتضح الرؤية حول الأساس السليم لتفعيل مسؤولية المقصرين في تدبير المال العام، وذلك وفق منطلقين:
أولا: تحريك المتابعة التأديبية
تعتبر المتابعة التأديبية من أهم الاختصاصات القضائية للمجلس الأعلى للحسابات، وهي تخضع لمسطرة خاصة وتحديد حصري لطبيعة المخالفات المضمنة في مدونة المحاكم المالية. وفيما يتعلق بجهات تحريك المتابعة فهي، الوكيل العام لدى المجلس أو أطراف خارجية، متمثلة في رئيسي مجلسي البرلمان ورئيس الحكومة والوزراء المعنيين باختلالات. أما من طرف الأطراف غير الرسمية كالمواطنين والجمعيات التي تهتم بقضايا المال العام، فتبقى المسألة غير مطروحة. على العكس من ذلك، بعض التجارب المقارنة كالبرازيل جعلت من حق المواطنين والجمعيات والنقابات إدانة المخالفات المالية أمام محكمة التدقيق الاتحادية مبدأ دستوريا.
بناء على هذه المعطيات، يتبين أن تحريك القضايا التي تستدعي التأديب المالي مسألة محسومة بنص القانون، وهي تتم في إطار الرقابة المندمجة للمجلس، بحيث إنه يمكن أن يراقب تسيير إحدى الإدارات ويتبين للقاضي المالي أن هناك خروقات ذات طبيعة تأديبية فتتم إحالة القضية على الوكيل العام للملك للمجلس من أجل تحريك المتابعة. وبالتالي فنتائج وخلاصات التقرير السنوي للمجلس لا تتضمن في طياتها مدعاة للمتابعة التأديبية، على اعتبار أن الأفعال التي تقضي المتابعة، قد تم تحريك المتابعة فيها في إطار الرقابة المندرجة، ويتأكد ذلك فيما تم عرضه في التقرير نفسه، إذ أكد المجلس أن مهام الرقابة خلال السنة المالية 2018 أسفرت عن تحريك 10 قضايا من طرف الوكيل العام، توبع من خلالها 36 شخصا. وعليه يبقى القول بضرورة متابعة المسؤولين عن تدبير الأجهزة العمومية تأديبيا، بناء على ما ورد في تقرير المجلس الأعلى، قول غير ذي أثر قانوني، استنادا إلى أن المتابعات سبق للمجلس أن فعلها تلقائيا، لكونها من اختصاصاته القضائية.
ثانيا: تحريك المسؤولية الجنائية
بمجرد صدور تقارير المجلس الأعلى للحسابات، غالبا ما تتم المناداة بتحريك هذه المسؤولية. والحال أن تحريك المتابعة بناء على ما ورد في تلك التقارير، يطرح العديد من الصعوبات القانونية والمهنية. فمسألة تقدير أفعال ذات طابع جنائي تعود لقضاة المجلس الأعلى للحسابات، وذلك بمناسبة البحث والتدقيق أثناء تنفيذ المهام الرقابية المدرجة في البرنامج السنوي للمراقبة. فبمجرد ما يتم اكتشاف الصبغة الجنائية للاختلالات، يقوم الوكيل العام للملك لدى المجلس الأعلى للحسابات بإحالة القضايا إلى الوكيل العام بمحكمة النقض طبقا للمادة 111 من مدونة المحاكم المالية. وتبين التقارير السنوية مجموع القضايا التي تمت إحالتها، فتقرير المجلس الأخير يشير إلى إحالة 08 قضايا وعدم إثارة الإحالة في 06 قضايا نظرا لعدم توفر قرائن كافية تؤكد طابعها الجنائي. (كانت القضايا سابقا تحال على وزير العدل باعتباره رئيسا للنيابة العامة، الأمر الذي كان يخلف ردودا نظرا لوجوده ضمن أعضاء الحكومة، وكان يشكك في جدية وحيادية تحريك أو عدم تحريك القضايا).
بناء على هذا التحديد القانوني، يظل تحديد الطبيعة الجنائية انطلاقا من مهام المراقبة شأنا خاصا بالمجلس الأعلى للحسابات، بناء على السلطة التقديرية لقضاته والنيابة العامة لديه بشأن الاختلالات المكتشفة. والقول بإمكانية تحريك المتابعة بناء على نتائج التقرير السنوي، لا سيما من طرف النيابة العامة للقضاء الجنائي، فيه نوع من سوء الفهم لعدة اعتبارات، منها كون القيام بالمتابعة فيه ضرب لمهنية قضاة المجلس الأعلى للحسابات، وتشكيك في كفاءتهم، من حيث أنهم لم يكتشفوا أفعالا ذات طبيعة جنائية أثناء المراقبة، وهذه المسألة غير واردة، نظرا لسهولة اكتشاف أفعال ذات طابع جنائي بالمقارنة مع المخالفات ذات الطابع التأديبي.
النقطة الثانية وهي الفكرة التي تقطع الشك باليقين حول طبيعة الملاحظات والاختلالات الواردة في التقرير السنوي للمجلس، والتي لا تستدعي القول بضرورة تكريس المتابعات الجنائية بناء على هذا التقرير. فالملاحظات التي يبديها قضاة المجلس والتي غالبا ما يشار إليها بالاختلالات، المقصود بها الاختلالات من وجهة نظر العلوم المالية والإدارية التي تؤطرها معايير محددة، كالكفاءة والاقتصاد والفعالية والنجاعة. وهي معايير تثبت مدى قدرة وجاهزية المسؤول الحكومي والإداري على تطبيقها في التدبير المالي والعمومي.
وبالتالي، يبقى النقاش الحقيقي والسليم من جدوى نشر تقارير المجلس الأعلى للحسابات، وكذا طبيعة مسؤولية الأشخاص المسجلة في حقهم تلك الاختلالات، هو المسار السياسي، وذلك في اتجاهين أساسين. الاتجاه الأول تفعيل البرلمان لمسؤولية الرقابة على أعمال الحكومة، ثم الاتجاه الثاني استغلال الحكومة لنتائج التقارير من أجل صياغة نقد ذاتي والقيام بالإصلاحات الضرورية. لكن تبقى المسؤولية السياسية للحكومة أمام البرلمان أهم وسيلة تؤكد نفعية استغلال نتائج وخلاصات تقرير المجلس الأعلى للحسابات.
المحور الثاني: نتائج الرقابة وتفعيل الرقابة البرلمانية على الحكومة
يشير دستور 2011 (الفصل 148) إلى توجيه نسخة من تقارير المجلس الأعلى للحسابات إلى رئيسي مجلسي البرلمان (إضافة إلى رئيس الحكومة والملك). وينص كذلك على تقديم رئيس المجلس عرضا عن أعماله أمام البرلمان في جلسة عامة يكون متبوعا بمناقشة. هذه المقتضيات مهمة توضح المسار المهم الذي يمكن أن يفرز التفاعل الحقيقي مع نتائج وخلاصات التقارير السنوية للمجلس الأعلى للحسابات (أولا). لكن هنا إمكانيات أخرى لا تقل أهمية كتتبع تنفيذ التوصيات (ثانيا).
أولا: استثمار الجلسة العامة
جرت العادة في السنوات الأخيرة، تفعيلا لمقتضيات الدستور، أن يقدم رئيس المجلس الأعلى للحسابات عرضا أمام البرلمان، لعرض نتائج وخلاصات توصياته، تتلوه مناقشة يتم من خلاها منح الفرق البرلمانية مدة محددة لطرح الأسئلة أو طلب توضيحات. وغاية المشرع من هذا التنصيص القانوني، ليس إقرار رقابة البرلمان على أعمال المجلس الأعلى للحسابات، لأن ذلك يتنافى مع استقلالية المجلس طبقا لما أقره إعلان مكسيكو بشأن استقلالية الأجهزة العليا للرقابة المالية، بل الهدف من ذلك هو توضيح وتعميق النقاش حول نتائج وخلاصات الرقابة، ليتمكن أعضاء البرلمان من وضع تصور واضح لتفعيل المساءلة البرلمانية على أعمال الحكومة، كإعداد أسئلة آنية للحكومة أو إمكانية وضع لجان لتقصي الحقائق، وتعزيز المناقشة في الجلسات العامة التي يحضرها رئيس الحكومة بمناسبة تقييم السياسات العمومية أو الوزراء بمناسبة الجواب على الأسئلة التي تهم قطاعاتهم.
لكن رغم هذه الأهمية، إلا أن النقاش في الجلسة العامة غالبا ما يأخذ أبعادا أخرى، تجعل المجلس في خانة تبني مواقف سياسية، وهذا يتنافى مع طبيعته ومجال اشتغاله. وهذا الطرح تأكد في السنة الفارطة حينما اتهم فريق برلماني المجلس الأعلى للحسابات بالتحيز في وضع برامجه السنوية للمراقبة، مؤكدا أن هذا الأخير لا يتوفر على رؤية استراتيجية بشأن ذلك، كما أن العديد من الإدارات تجري مراقبتها مرات عدة، في حين إن بعض الهيئات لا تتم مراقبتها البتة (انظر محضر مداولات مجلس النواب، الجلسة 26، دورة أكتوبر 2018 بتاريخ 12 دجنبر 2018، ص 2).
والواقع أن طبيعة التدخلات لا تخدم هدف المشرع من إقرار هذا النوع من الجلسات، لأن طبيعة النقاش تؤكد أن الرقابة البرلمانية تتحول من الرقابة على أعمال الحكومة بناء على الاختلالات التي تضمنها تقرير المجلس الأعلى للحسابات إلى الرقابة على أعمال المجلس الأعلى للحسابات، وفي ذلك مس بهدف الرقابة واستقلالية المجلس المكرسة بموجب الدستور.
ثانيا: إشكالية تتبع التوصيات
يعتبر تتبع التوصيات من أهم الآليات التي توضح الأثر الرقابي للمحاكم المالية. ففاعلية خلاصات ونتائج تقارير المراقبة مرتبطة بشكل وثيق بمدى تنفيذ الأجهزة العمومية لتوصيات المجلس الأعلى للحسابات. لكن يلاحظ وجود قصور تشريعي في هذا الجانب، يهدف إلى وضع مقتضيات ردعية تلزم تلك الأجهزة بتنفيذ التوصيات. والصيغة التي يتأكد بها المجلس من تتبع تنفيذ توصياته تتجلى في القيام بتحريات ميدانية أو مراسلة الأجهزة المعنية حول مآل التوصيات.
وهذا التوجه من الناحية المبدئية يشير إلى أن تتبع تنفيذ التوصيات كأنه شأن خاص بالمجلس الأعلى للحسابات. غير أن الأمر لا يبدو كذلك، خصوصا على مستوى آثار إصدار تقارير المجلس الأعلى للحسابات على الرأي العام. فمجمل الردود ومطالب الجمهور يبقى الفضاء البرلماني المكان المناسب لاستيعابها. وبالتالي تتبع توصيات المجلس الأعلى للحسابات شأن عام يتعين على البرلمان القيام به في إطار المسؤولية السياسية للحكومة أمامه. وذلك على غرار بعض التجارب المقارنة، كالتجربة الألمانية، حيث يقوم البرلمان الاتحادي بتأمين تتبع وتنفيذ توصيات محكمة التدقيق الاتحادية.
خاتمة:
خلاصة القول من هذا التحليل هي محاولة البحث عن الأثر القانوني الذي يرجى من خروج نتائج وخلاصات المجلس الأعلى للحسابات، وإعطاء قيمة لتساؤلات ومطالب الرأي العام. والهدف من ذلك توضيح مختلف الإشكالات التي يمكن أن تنشأ بين المؤسسات الدستورية، وكذا إحاطة ردود ومطالب الرأي العام بسياق فكري وقانوني سليم حول المضامين والمآلات السليمة للمخرجات الرقابية للمحاكم المالية.
*دكتور في المالية العامة