رأي

عبد الغني القاسمي: " من أين لك هذا ؟ " بين الواقع و الوهم

منذ أن انفتح العالم الحر على الديمقراطية كأسلوب للحكم الملتزم بجملة من القيم و المبادئ التي أفرزت الحدود الفاصلة بين الانصاف و الظلم و العدل و الاستبداد و الحرية والفوضى و ضمنت للانسان حقوقه السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية التي نص عليها بتفصيل  في وقت لاحق الميثاق العالمي لحقوق الانسان ، منذ انطلاقة ذلك الانفتاح التاريخي الذي ترجمت مخرجاته الأساسية الى مقومات شكلت على قاعدتها الدولة المدنية الحديثة ، دولة الحق و القانون و المؤسسات التي يؤطرها الدستور ، دولة تقرن المسؤولية بالمحاسبة و لا تستثني أحدا من العقاب اذا ثبت تورطه في الفساد و اختلاسه للمال العام و استغلاله للنفوذ عند تحمله احدى الوظائف العمومية ، و من هنا فرض نفسه مبدأ في صيغة سؤال " من أين لك هذا ؟ و أصبح من الواجب توجيهه الى كل من انتهت مهامه – كيفما كان السبب – ليثبت عفته و سلوكه السوي و ترفعه عن كل اثراء غير مشروع خلال تحمله لتلك المهام .

و مما لوحظ على العديد من الأنظمة الحاكمة أنها تتخذ من هذا المبدأ ذي البعد الكوني شعارا لتنميق أدبياتها الخطابية و لا تسعى لتنزيله في دائرة الواقع ، ربما لكون من سيحاسب غيره ليس مؤهلا لهذه المهمة ، خاصة اذا كان هو نفسه قد ارتكب من الأخطاء ما هي أكثر فظاعة و فسادا ، و قد يدفعه ذلك الى اللجوء لطريقة معروفة ب " استرني أسترك " ، كما يتحايل الكثيرون على القانون بعدم الافصاح عن ممتلكاتهم أو حساباتهم المصرفية سواء كانت داخل البلاد أم خارجها ، وعن هذه الحسابات التي يخفي أصحابها حجمها الحقيقي قررت  بعض الدول تغيير أوراق عملتها ، حيث أصبح هؤلاء المتهربون من التصريح بممتلكاتهم ملزمين بتغيير أرصدتهم و نقلها من العملة القديمة الى الجديدة حتى لا يفقدوا قيمتها ، و عندئذ يفتضح أمرهم و يتم التعرف على ما يملكون من حسابات ليطرح عليهم بجد سؤال " من أين لك هذا ؟" ، ولكن اجراءات من هذا القبيل لا تجرؤ على اصدارها و تطبيقها سوى الأنظمة الديمقراطية التي تحترم شعوبها وتلتزم بقيمها و مبادئها  .