تحليل

المرأة الكاتبة بين الحضور والتخفي

حسن الوزاني

تكشف آخر دراسة قامت بها الصحيفة البريطانية العريقة الغارديان، قبل شهر، عن استمرار الحضور الباهت للمرأة على مستوى كِتاب الطفل، حيث ما زال الذكور يستحوذون على الكُتب المصورة. وأكثر من ذلك، كانت دراسة سابقة لنفس المؤسسة قد حصرت حضور المرأة في الواحد في المئة من بين ألفي عنوان. ولا ينتهي الأمر هنا، بل يشمل أيضا الكُتاب المؤلفين، حيث يشغل الكُتاب الذكور أكثر من الثلثين من بين أصحاب المؤلفات.
وتلتقي هذه النتائج مع معطيات التقرير السنوي الخاص بالتعدد في هوليوود، الذي تنجزه جامعة كاليفورنيا، والذي يؤكد بدوره الحضور الباهت للمرأة على مستوى الإنتاج السينمائي الأميركي.
وإذا كانت هذه الحصيلة غير المشرفة لمكانة المرأة تُسجَّل داخل بلدان يُعرف عنها انتصارها للمرأة ولحقوقها، وعرفت نضالات نسائية خلال عقود بحثا عن مكان أفضل للمرأة، فلنا أن نتصور الوضعية داخل فضاءات أخرى، حيث  ما زالت المرأة تكافح من أجل حقوقها البسيطة. أن تكتب مثلا بدون أن يبحث بعض القراء من ذوي النية السيئة عن حضور الجنس داخل نصوصها، وأن تمر في الشارع بحرية بدون أن تتعرض للتحرش.
ولعل إقصاء المرأة، أو تناسيها، سواء على مستوى التأريخ الأدبي أو على مستوى الحقوق العادية ليس أمرا جديدا.  ولذلك سيحرص، على سبيل، عالم مغربي، وهو عبد الله كنون، في كتابه الشهير “النبوغ المغربي”، على التقاط أسماء الأديبات والمفكرات اللواتي طبعن، خلال قرون، تاريخ الأدب والفكر بالمغرب، واللواتي جرت العادة أن يسكت عنهن تاريخ الحركية الثقافية بالمغرب، وإن كان عبد الله كنون اختار الوقوف، بشكل سريع وعابر، عند الأسماء النسائية في آخر الفصول.
وفي جميع الأحوال، سنقف مع عبد الله كنون وبعض المصادر الأخرى عند عدد من التجارب النسائية الثقافية، وعلى رأسها الشاعرة رميلة. ولعلها الأولى التي كانت تكتب قصائدها باللغة العامية المغربية. وإذا كان تاريخ الأدب الآن لا يحتفظ بقصيدة لها، فإن الشاعرة ما زالت تحضر عبر قصيدة شاعر آخر اسمه ابن غزالة. وكان قد سقط في حبها، وكتب قصيدته “العروس”، في التغزل بها، باللغة العامية أيضا. وسينتهي الرجل مقتولا، بسبب قصيدته الجريئة، التي يصف فيها نفسه بالصياد الذي استطاع اقتناص طريدته. والتي لم تكن في نهاية المطاف إلا أخت الخليفة الموحدي عبدالمؤمن بن علي، الذي عُرف بصرامته الدينية.
لن تكون الشاعرة رميلة هي الأخيرة، وإن لم يسجل التاريخ الأدبي المغربي تجربة حب انتحارية أخرى بنفس قوة ما حدث لابن غزالة. سيعرف العهد اللاحق، وهو مرحلة دولة المرينيين، بروز أسماء نسائية أخرى، من بينها الشاعرة أم الحسن بنت أحمد الطنجالي، وقد كانت، كما يُعرفها ابن الخطيب، تجمع بين الكتابة الشعرية والمعرفة الطبية، متقاسمة المجال الأخير مع اسم آخر وهو عائشة بنت الجبار.
وإذا كان يحسب لعبد الله كنون وقوفه عند بعض الأسماء النسائية، وإن كان ذلك بشكل عابر، فقد اختار كل من محمد بن تاويت ومحمد الصادق عفيفي السكوت في كتابهما المشترك “الأدب المغربي”، الصادر في بداية ستينات القرن الماضي، الصمتَ عن إسهامات المرأة في مسارات تكون وتطور الأدب المغربي، مكتفيين بذكر اسم امرأة واحد، وهي فاطمة أم البنين، والتي كانت وراء تأسيس جامع القرويين بمدينة فاس المغربية. والحقيقة أن ذلك لا يبدو اكتشافا، فأصغر طفل في مدينة فاس، أو في غيرها من المدن والقرى المغربية، يحفظ هذا الاسم عن ظهر قلب.
ولا يبدو أمر التناسي عاما، إذ نجد من المدهش أن يُقر عالم مغربي كبير، وهو عبد الرحمن بن زيدان، وهو الذي كان مؤرخا رسميا للدولة العلوية، بأنَّ من بين من أجازوه، عالمة من المدينة المنورة، وهي أمة الله بنت الشيخ عبد الغني. وهي نفسها التي أخذ عنها أيضا عالم مغربي كبير آخر، وهو عبد الحي الكتاني، حيث يشير في مقيدته، التي دون فيها لرحلته الحجازية، إلى أنه لم يجد في الرواية، في الحرمين، إلا الراوين عن، باستثناء امرأة ورجل. فأما المرأة فهي نفسها التي أجازت ابن زيدان، وأما الرجل فهو بهاء الدين الأفغاني.
خلال الشهر الجاري، أثير نقاش على صفحات الويب، وهذه المرة داخل المغرب، وهو يهم غياب الأصوات النسائية على مستوى مجلة الثقافة المغربية، الصادرة عن مؤسسة رسمية وهي وزارة الثقافة المغربية. وكان المُبادر بإثارة النقاش مصحا، كما كان رد إدارة المجلة محقا، بتأكيد أن المواد الثلاث المنشورة في المجلة هي ما تم التوصل به.
وكنت شخصيا قد عشت الأمر حينما كنت أتولى مسؤولية مديرية الكتاب، حيث كان يهمني، بشكل خاص، أن تكون ضمن لجان جائزة المغرب للكتاب نساء باحثات. وكلما اكتشفت اسما جديدا، كنت أطمئن على مصداقية عمل اللجان.  وقد يكون ذلك بسبب صورة صرامة المرأة كما قد نتخيلها، بدون أن يمس ذلك بمصداقية الرجال.
أما فيما يخص التصنيفات، فهي، في جميع الأحوال، لا مكان لها في حالة الكتابة. إذ صار مفهوم “الكتابة النسائية” أشبه بسجن كبير، ترفض الكاتبات الحقيقيات دخوله. ولعل ذلك ما يفسر، بالإضافة إلى أسباب أخرى، جانبا من أسباب لجوء عدد من الكاتبات إلى التوقيع بأسماء مستعارة، بما فيها الأسماء الرجالية. فجورج إليوت ليس في الحقيقة إلا  الروائية ماري آن، وهي التي اختارت التخفي وراء اسم رجل، لكي تستطيع أن تعيش حياة هادئة، بعيدا عن الأضواء، أما الكاتبة ذات الأصول الروسية، إلزا تريولي فستختار اسما رجاليا هو لورون دانييل لتوقيع روايتها الوحيدة “عشاق أفينينو”، وقد أصدرتها في فترة دخولها للعمل السري، في إطار المقاومة الفرنسية. وإن كان صديقها  الشاعر  الشهير أراغون قد فضح الأمر، حين وضع اسمها الحقيقي في عنوان ديوانه الشهير “عيون إلزا”.
أما الأمر المفارق، فهو أنه يندر أن يتخلى كاتب عربي أو كاتبة عربية عن اسمه أو عن اسمها، حتى في أقسى الظروف. ولعل ذلك من باب عدم التخلي عن أمجاد في الأفق. وحده الروائي محمد مولسهول فعلها حينما اختار  التوقيع باسم زوجته ياسمينة خضرا. وإن كان قد فَضَح السر فيما بعد!