رأي

عبد الرحيم الفارسي: من وحي المقهى...جدي أراد أن يحكمه تونسيون

بعد أن تسلمت الفنجان من عامل المقهى ألقيت نظرة على شاشة التلفزيون. ثمة مباراة بين منتخبي ايطاليا وفنلندا. أبتسم ابتسامة لا إرادية وأخرج إلى الساحة المقابلة.
عقارب الساعة تشير الى حوالي التاسعة والنصف ليلا. النادل شرع في جمع الكراسي والطاولات. لعلي جئت متأخرا بعض الشيء.
لما وصلت بصحبة فريقي إلى القصرين (غرب وسط تونس)  كانت أصوات المؤذنين تصدح في فضاء المدينة معلنة صلاة المغرب.
كثيرا ما سمعت بهذه المدينة التي يوصف أهلها بالمتمردين على سلطة المركز.
المشاهد فيها تذكرني بمدينة جرادة في شرقي المغرب. المدينتان كلتاهما حدوديتان مع الجزائر شرقا وغربا. ومقاهيهما مصطفة على طول الشوارع، والشباب لا يجد ملجأ من ساعات البطالة الطويلة سوى هذه الكراسي التي تطوق حولها أحلامه وهمومه.
يأتي شاب من أبناء المدينة كنا اتصلنا به قبل مجيئنا، فيحدثني دون مقدمات عن مشاكل البطالة.
يدير وجهه كأنه يحدث نفسه، أو يحدث شخصا آخر لا أراه في الظلمة أمام مبنى البلدية، فيسترسل:"لا نصدق الكثير مما يقوله أهل المركز وإعلامهم عنا. نحن لسنا حاضنة للارهابيين".
يشير بيده ناحية جبل لا أكاد أتبين خياله من بعيد. يقول "لقد حلت علينا لعنة سمعة ذلك الجبل".
كان يتحدث عن جبل الشعانبي الذي ارتبط ذكره بعدد من المواجهات الدامية التي حدثت بين قوات الجيش التونسي وجماعات مسلحة.
يقول الشاب "بالله عليك هل تشعر بأننا نعيش حالة من الارهاب؟. ألا ترى المقاهي ممتلئة عن آخرها؟."
يشرع صرصار في اطلاق لازمته التي لا يمل منها. هذه الحشرة تظل المؤنس لوحشة الأذن أينما كانت.
يستأنف الشاب الذي ينشط بإحدى الجمعيات، كلامه قائلا:" مشكلتنا في التهميش الممارس علينا عنوة. جدي كان من المقاومين ضد الاستعمار. وقبل أن يرحل عن الدنيا في ديسمبر عام 2010 ، سألته لماذا رفع السلاح ضد الفرنسيين. قال لي""يا بني، رفعته ليحكمني التونسي بدل الفرنسي. لكن للأسف لما حكمني التونسي تعسف علي في حكمه"".
وكأن الشاب لاحظ اهتمامي بمبنى قديم سقفه من القرميد بييت أنظر إليه مدة من الزمن، فأخبرني بأنه موروث عن زمن الاستعمار.
قلت له:"بلى لقد عرفته. فمثله  في بلداننا المغاربية كثير.".
أشرقت عيناه الصغيرتان، وأضاف:"هناك خلفه محطة قطارات كانت تربط القصرين بتونس العاصمة. لكنها لم تعد كذلك. لقد توقف ذلك الخط. وهذا واحد من إنجازات زمن الاستقلال". ثم ابتسم ساخرا.
منذ مدة وأنا أفكر بزيارة هذه الربوع من تونس، سواء في سياق عملي أو من باب الفضول المعرفي. فمناطق الهامش كثيرا ما تكون متحفا يحتضن عادات ومظاهر ثقافية امَّحت في المركز، وكثيرا ما تكون مشتلا تنبت فيه بذور الحرمان والتهميش لتكبر فجأة فتصبح انتفاضات أو ثورات.
تبعد هذه المدينة بحوالي 300 كيلومتر عن العاصمة التونسية، لكن الوصول اليها بالسيارة يستغرق ما لا يقل عن أربع ساعات. فالطريق يصبح وعرا بمجرد الابتعاد عن الساحل الشرقي، منعرجا عبر القيروان ثم سلسلة من البلدات الصغيرة التي ينتشر على جانبي الطريق فيها بائعو البنزين المهرب من ليبيا وبعض الخضر والفواكه الموسمية.
ولاية القصرين بنيت على أطلال عدد من المدن الرومانية التي لا زالت آثارها بادية في مدخل قرية سبيطلة القريبة من القصرين.
لكن الماضي التليد لهذه المنطقة ليس دليلا على أن أهلها ظلوا يعيشون عيشة مريئة رغم ما تزخر به من خيرات زراعية ومعالم سياحية، فمن هنا مرت قوات الحلفاء في أواخر عام 1942 حيث دارت معارك طاحنة مع قوات المحور. وهنا استسلمت اعداد من قوات ايطاليا الفاشية، ليبدأ السقوط الفعلي لنظام موسوليني.
شرعت في حك جلدي بعدما لسعتني بعض البعوضات. ثم سألت الشاب عن المسافة التي تفصل بين القصرين وشقيقتها تِبسَّة داخل الاراضي الجزائرية، فاعتذر بأنه لم يسبق له أن زار الجزائر لانه ليس لديه جواز سفر. لكنه أجاب بطريقة ملتوية "الناس هنا يدفعون أربعة دينارات للتوجه الى تبسة، وعشرين دينارا تونسيا للسفر الى عاصمة بلدنا".
قبل ايام سمعت عددا من المرشحين لمنصب رئاسة تونس أنهم سيعملون على اقناع الجزائر بإنشاء مناطق تبادل حر على الحدود، تقام فيها مشروعات مشتركة لسكان البلدين.
يبقى هذا الكلام جميلا. لكن تجاوب الناس هنا مع وعود المرشحين يجمله اختيار صاحب المقهى لقناة تعرض مباراة بين منتخبي ايطاليا وفنلندا، في الوقت الذي كانت القنوات التونسية تقدم الحلقة الثانية من المناظرات بين المرشحين.
عامل المقهى أدخل جل الكراسي والطاولات، ولم تبق سوى طاولتي وطاولة ستة شبان يلعبون الورق. حتى هم يعادرون الآن.
سأترك المكان للذكريات وللصرصار الذي لم أسمع أبدا أن صوته صار مبحوحا.. ربما لان صفيره صادر عن احتكاك سيقانه...
(حديث الصور
كنت واقفا أمام الكاميرا قبالة مبنى بلدية القصرين فإذا بطفل يتعلق بملابسي ويقول اريد أن أظهر في التلفزيون. لم أشأ أن اخيب أمله فرفعته أمام عدسة الكاميرا التي لم تكن تسجل، ثم عاد فرحا عند أهله، وما هي إلا دقيقتان حتى جاءت أخته تطلب الشيء ذاته... لبيت طلبها بفرح لا يقل طفولية عن فرحهما)