قضايا

توثيق الألم ..

الحسين اليربوعي

أو حين يتحصَّل المشهد ويتفلَّت الروح ..

فلا الشرع دفع ولا القانون ردع ..

تعددت مشاهد الألم بل الآلام، ألم الموت والجراح، ألم الفقدان والرحيل، ألم الظلم والإعتداء، ألم الفقر والحرمان، ألم الاستقواء والجبروت... فتلك طفلة بين قضبان شباك نافذة منزلها تحترق، وذلك شيخ او فتاة في الشارع العام على عنقيهما سيف مسلط يسلبان ما يملكان، وذلكم العالقون في منصة ملعب الوادي يرجون رحمة السيل بهم ...

هؤلاء وغيرهم لم يكونوا لوحدهم ولم نخمن ما حصل لهم، بل كانت تفاصيل محنتهم وآلامهم معاشة بكل تفاصيلها ودقائق لحظاتها العصيبة ونهاياتها المفجعة ...

هي مشاهد مرئية لا نحتاج الانتقال إلى مسارحها بل تصلنا ونحن على ارائكنا أو في مكاتبنا ومحلاتنا اوعلى قمم جبال بلداتنا نراها رأي العين بكل تفاصيل ألمها .. لحظة قرب وقوعه، ولحظة بدئه، ولحظة توغله في الجسد ومقاومة الروح للبقاء .. بقاء قد يحصل مصحوبا بندوب النفس والجسد مدى الحياة، وقد لا يحصل فنكون بصدد جثة هامدة ونحيب وعزاء لا قدر الله ..

نعم هي مشاهد موثقة لألم سيظل حيا كلما اعيدت تلك المشاهد وهي حتما لن تموت فقد وثقت وارسلت للكون كله لا جدار يمنعها ولا حدود تحد من جولانها وانتشارها في مناكب الأرض وأحراشها وسهولها وحواضرها وبواديها..

وتظل الآلية التوثيقية لهذه المشاهد/الفواجع دون منازع هي هواتفنا "الذكية" التي رغم كل ايجابياتها إلا انها أفلحت في نزع الإيجابية عن الكثير من تصرفاتنا، وزاد ذكاؤها من منسوب غبائنا، وألغى احترامنا لذواتنا لغيرنا، لقد صرنا جميعا مهووسين بالتقاط الصور لكل شيء متحرك وساكن، عام وخاص، شخصي عادي أو شخصي حميمي لا يجب ان يرى أو يوثق، ووثقنا باندفاع بل بفرح للألم والموت والجراح ... لقد صرنا نتربص ببعضنا البعض هازلين أو جادين، متصيدين للعثرات أو ناصبين للأفخاخ، أو مصفين لحسابات ..

وفي خضم هذا الهوس الجنوني بالتقاط وتوثيق كل شيء، استأثرت مشاهد الألم بالنصيب الأوفر فحظيت بالمتابعة الواسعة وتبادل الأصدقاء والمقربون مقاطعها، وتصدرت مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من مواقع إلكترونية إخبارية وقنوات تلفزية ...

لا أنكر انه يمكن ان نستخلص من هذه المشاهد دراسة وقائعها وتشخيصها واقتراح حلول مستقبلية كي لا تتكرر مآسيها ولكن السؤال هو :

- هل كان هذا البعد حاضرا حين كنا نصور مشاهد الفاجعة والموت والألم ؟؟

- وهل كان هذا البعد حاضرا حين كنا نبثها للعالم أجمع ؟؟

- أم كان الهدف هو التصوير وكسب السبق وأن يحصد ما التقطناه "لايكات" كثيرة ومشاركات المتعددة كي يحظى بالمتابعة الواسعة (البوزBUZZ) ؟؟ ولو على حساب الآخرين !!!

وانا اتابع كل هذه المشاهد المؤلمة راودني إحساس غريب وخلصت إلى نتيجة أتحاشى تصديقها غير ان المؤشرات تدل على صدقيتها، وفحواها ان مصوري هذه الفواجع (الذين ليسوا لا صحافيين ولا مراسلين مهمتهم نقل الأحداث) أخالهم يستمتعون ويتلذذون بلحظات التصوير الأليمة بل ويتمنون ان يصل هذا الألم لأبعد مدى !!!؟؟؟؟ لا أتهم أحدا ولكنه إحساس له مسوغاته ومنها :

1- الاشتغال بالتصوير وقت الألم لا شك انه ينزع عن صاحبه صفة التضامن المفترضة مع الضحية مهما ادعى ذلك إذ لا يجتمع انشغالان في لحظة واحدة : انشغال بتوثيق الحدث وتصويره، وانشغال بالتضامن؟؟؟ فما هو الا انشغال واحد وقد اختار أيهما يريد.

2- الاشتغال بالتصوير وقت الألم لا شك انه دال على غياب التفكير في تقديم المساعدة والاستعداد لذلك أصلا؟؟ وإن كان هذا التفكير واردا فهو عالة على غيره إذ ينتظر ان يقدم الغير هذه المساعدة!!

3- الاحتجاج بالرغبة ولكن وسائل التدخل غير متوفرة بعين المكان لا يستقيم، فالدقائق التي خصصت لتتبع مشاهد الألم وتوثيقه وإذاعته ونشره قد تكون كافية لطلب المساعدة أو البحث عن حلول او على الأقل طمأنة الضحية بانه سيكون بخير وإشعاره بمشاركته هذا الموقف الأليم، هل سألت نفسك يا مصور الألم وناشره ما شعور المتألم وهو يراك تصور ألمه وهو الذي كان ينتظر العون والإغاثة والحد من هذا الألم او على الأقل التخفيف منه؟

النظر لهذا الموضوع ومقاربته من الناحية النفسية (الإنطباعية) لا يعني اغفال المقاربة الشرعية والقانونية فهذا معلوم لدى الجميع ونحيل عليها من خلال النصوص الشرعية الدالة والحاثة على مساعدة الغير الكثيرة والتي أسوق بعضا منها للمثال لا الحصر، قبل ان أعقب بالنص القانوني المجرم لعدم تقديم المساعدة لشخص في خطر:

أولا : النصوص الشرعية

1- يقول الله تعالى " وافعلوا الخير لعلكم تفلحون "

فأي خير نفعله ونحن نصور ألم أحدنا وهو في امس الحاجة لتلك الدقائق واللحظات علها تحد أو تخفف عنه وطأة ما هو فيه ؟؟

2- وقوله جل وعلا " فلا اقتحم العقبة وما ادراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة " نعم فك رقبة، والرقبة لا تعني فقط ما كان معروفا في القديم من رق وعبودية بل يمتد معنى فك الرقبة هنا - والله تعالى أعلم - إلى تخليص صاحبها من آلامه التي تطوق عنقه وتهدد حياته.

3- قوله صلى الله عليه وسلم "من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب الآخرة ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والاخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"

وليس هناك من كربة أشد من لحظة لا يدري المرء أيكتب له النجاة بعدها ام لا من هول ما هو فيه ..

4- وقوله صلى الله عليه وسلم " أحب الناس إلى الله انفعهم للناس، واحب الأعمال إلى الله سرور يدخله على مسلم، او يكشف عنه كربة أو يقضي عنه دينا، او تطرد عنه جوعا... الخ الحديث.

فإن لم تحضر المنفعة وقت الحاجة فلا حاجة إليها ولا معنى للمواساة ولا الترحم بعد ذلك خاصة لمن كان قادرا على تقديم هذه المنفعة أو على الأقل حاول قدر المستطاع وفوق طاقتك لا تلام.

هي إذن غيض من فيض نصوص دالة على تقديم المساعدة وغيرها كثير، الحاملة لمعاني التعاون على البر والتقوى والتضامن والتكافل والسعي في مصالح البلاد والعباد.

ثانيا : النصوص القانونية

وإذا كان الجزاء الإلهي - ثوابا او عقابا - مؤجل للأخرة "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره "، فإن الجزاء القانوني آني ومنصوص عليه يتعرض له كل من تخاذل ولم يقدم المساعدة لشخص في خطر، وفيما يلي النصان الواردان بالقانون الجنائي بهذا الصدد :

1- الفصل 430 : "من كان في استطاعته دون أن يعرض نفسه او غيره للخطر، أن يحول بتدخله المباشر دون وقوع فعل يعد جناية او دون وقوع جنحة تمس السلامة البدنية للأشخاص لكنه أمسك عمدا عن ذلك يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى خمس سنوات وغرامة من مائتين إلى الف درهم او بإحدى هاتين العقوبتين فقط"

2- الفصل 431 : "من امسك عمدا عن تقديم مساعدة لشخص في خطر، رغم أنه كان يستطيع ان يقدم تلك المساعدة إما بتدخله الشخصي وإما بطلب الإغاثة، دون تعريض نفسه او غيره لأي خطر، يعاقب بالحبس من ثلاثة اشهر إلى خمس سنوات وغرامة من مائتين إلى الف درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط"

لا أحاول تنزيل شروط تطبيق هذين الفصلين على كل الاحداث المؤلمة فقد تكون متوفرة في بعض ما شاهدناه ونشاهده، ومنعدمة في بعضها الاخر، كما لا أحاكم أحدا فتلك مسؤولية على عاتق المؤسسات المنوط بها التحقيق والمتابعة والمحاكمة، ولكني أدعو إلى تفعيل مضامينهما بشكل يتماشى وظاهرة الحياد السلبي واللامبالاة المستشرية في المجتمع خاصة إن رافقتها ظاهرة الاسترزاق بآلام الناس وتحقيق الشهرة على حساب معاناتهم.

إن المشاهد المؤلمة التي رأيناها وتتبعنا تفاصيلها والنهايات الحزينة والمأساوية للعديد منها، لا شك أنها تنضح بالتقصير الفردي والتراخي المؤسساتي، رغم محاولة البعض البحث عن سبل المساعدة والتدخل ولكن لو كنا جميعا مستحضرين لهذه الحمولة الشرعية وهذا الإلزام القانوني والمشترك الإنساني لانخرطنا بعقولنا وجوارحنا لا يجاد انجع الحلول للتدخل ولتحولت دقائق التصوير ولحظات المشاهدة الى محاولات إنقاذ قد تنجح وذلك ما نبغ، وقد لا تنجح ولكننا نكون إذ ذاك قد أبرزنا جمال انسانيتنا ورونق تضامننا وصدق مواساتنا وتعازينا.

ولله الأمر من قبل ومن بعد