رأي

عبدالسلام لبيض: بلا موعد مع زمن سحيق

أمامي أخذ مكانه ، أسرعت النادلة نحوه دون ان يطلب منها شيئا واضعة كوب قهوة سوداء وكأس ماء ، ناولته جريدة الصباح ، وكأنه يخاف ان يحل المساء . لم يرفع رأسه كث  الشعر الأبيض المائل للون الرماد ، اخذني الفضول لهذا الشخص الذي لا يشبه من نصادفهم يوميا ، شخص في الثمانين او اكثر لم يتبقى منه   غير جلد وعظام ونفس متقطع كلما أخذ نفسا من سجارة رخيصة ، يعلو سعاله فيهتز كما تحرك الرياح قصب السكر .. وهو ممعن النظر في صفحة الجريدة يتهيأ لك وهو يتهجى بصعوبة الحروف ، تحس وكانه يلعن الزمن الذي عاث بقوة بصره . شدني إليه بقوة ، ربما ارى نفسي فيه بعد ثلاثين عاما إن طال بي العمر .. 

لو يرفع راسه عن الجريدة لأهز له رأسي كإيماءة لتحية ربما فتحت باب حوار بين جيلين .. لم يرفع رأسه عن الجريدة و السجارة لا تفارق اصابع يده وبحركة بطيئة أخرج قلما انيقا لربما هو أغلى بكثير من السترة التي يرتديها .. اخذ يفك كلمات متقاطعة كما فكك ربما في حياته زمنا .. تحذوني رغبة لم اعهدها في ان اجلس بجانبه و اريح عينيه المتعبتين .. خفت ان اقلق راحته .. لكن توتري زاد هذا الهيكل العظمي وذاك الشيب كغبار وخيوط عنكبوت تضفي على شكله ذاك الاحساس كونك في قبو مهجور به هيكل لشخص مات منذ قرون .. 

بدأ التعب يظهر على قسماته أحسست ذلك وبدأت احس بفرح طفولي . 

طلبت من النادلة ان تحضر لي فنجان قهوة ثان وتضعها في طاولة بقربه ، رميت عليه السلام فاجاب :وعليكم  دون ان يرفع عينيه ويسوي ظهره المقوس .. سألته  بادئا الحديث :

سيدي انا جديد بهذا الحي ، ولا أعرف اين يمكنني إيجاد ساعاتي ليصلح ساعتي اليدوية . 

و أخيرا رفع رأسه ببطء و أصلح من جلسته وقال انت تعرف يا بني ان العقار هنا جد مرتفع فمن من الساعاتيين المساكين بامكانه دفع ستين مليونا ليقتني دكانا لن يزوره به احد فالكل اصبح يعتمد على الهاتف المحمول ، كل شيء تغير حتى المقهى لم تبقى تلك المقاهي حيث يتعارف الناس او يتخاصمون كل منحشر الان في شاشة المحمول او معلق رقبته بالتلفاز كالابله يتابع مقابلة في كرة القدم من البطولة الفائتة .. 

حاولت ان اقترب منه اكثر فقلت نحن المسنين لا نستطيع ان ننسجم كثيرا مع هذا المناخ فقد ألفنا علاقات الجيرة وابناء الدرب والثرثرة في المقاهي .. 

ضحك حتى امتزجت ضحكته بسعال حاد ، لكن رمقت عزاء في عينيه الغائرتين وقال : انت لا زلت شابا وتقول نحن المسنين ، ابتسمت و قلت ذاك من جودك انا الان لا تفصلني عن الخمسين الا بضعة ايام .. ضحك وقال يا بني انا تجاوزت   التسعين ، في سنك كنت اعتبر نفسي لا زلت يافعا وقد انجبت ابني التاسع هو اليوم تجاوز الاربعين .. لم اعش هذا الوهن الا عندما غادرت العمل حاولت ان انشغل لكن كما ترى اصبحت حركتي ثقيلة وركبتاي بالكاد تحملانني ، فلو بقيت في اوربا ربما لكنت الان احتسي جعة واراقص احدى الصبايا ، هنا كل من يقابلني يقول لك الحاج وكأنه يسرع اجل موتك .. .. 

رن هاتفي لم يكن ممكننا ان لا اجيب ، تحركت لم يدعني اؤدي ثمن قهوته الا بعد توسل مني ودعته وانا اتمنى ان اجالسه مرة اخرى ربما قمت معه بسياحة في ذاكرة اكيد لم يصبها الزهايمر ولم تضعفها تجاعيد الزمن.