رأي

مصطفى قطبي: ثورة تكنولوجيا الإعلام وصياغة الهويّة الثقافية... ؟

إنّ الفكرة القائلة بأنّ تكنولوجيات الإعلام تجعل أمر تجاوز المكان ممكناً، كانت المحور الأساسي للدراسات التي سعت إلى كشف العلاقات القائمة ما بين الإعلام والهويات الوطنية. ويشير الدارسون إلى أنّ الصحف، والمجلات، والأفلام، والراديو، والتلفزيون كانت جميعها مسئولة عن جلب وجذب وجمع الكثير من الجماهير المتعددة والمتفرقة والمتباعدة، بحكم المكان والجغرافيا واللغة والعرق والثقافة والدين. وذلك عن طريق إرسال ثقافة عامة لكل شرائح المجتمع وفئاته ضمن حدود الدولة ـ الوطن، الإعلام يزيل الفروقات والاختلافات التي تجعل الثقافات بعيدة عن بعضها الآخر.

 

إن تعايشت الثقافات المختلفة (ودائما بطريقة غير سهلة) تحت نظام حكم سياسي، أنشئ من قبل الدولة ـ الوطن، فإنّ الإعلام يخيط ثقافة وطنية مهيمنة من الأجزاء الثقافية المتفرقة للوطن، ويصيغ هوية ثقافية جامعة، أو هكذا يتوقع منه، حفاظاً على سيادة الدولة واستقرارها وأمنها. وذلك أنّ عملية تشكيل الأوطان هي جزء من الإجراءات العامة المتعلقة بالتكتيل الثقافي وجمهرته، وجعله عنواناً لتجميع الجماهير ضمن الدولة ـ الوطن حول ثقافة موحّدة، وهذا ما يؤديه الإعلام.

 

إنّ المدّة التي يمكن إطلاق عليها الوطنية الموجّهة من قبل الإعلام، كانت مدّة نماء وتطور الإعلام الجماهيري، ومن تمّ أدّت إلى إيجاد جمهور من المستمعين والقراء والمشاهدين ليس فقط جماهيرياً بل أيضاً وطنياً. هذه النظرة يشترك فيها الكثير من الدراسات خارج نطاق الاتصالات والإعلام. ترى النظرية المختلطة للاتصال أن سعي العالم الثالث إلى إيجاد نوع من التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع دفعه إلى تبني النظامين الرأسمالي والاشتراكي. ولكن التوازن بين الرأسمالية والاشتراكية لم يمض على وتيرة واحدة في العالم العربي، بل لقد أصبحت تجارب هذا العالم تحتوي على خليط من النظم السياسية والاتصالية والاجتماعية والمتضاربة في أكثر الأحيان.

 

وهذا ما ينعكس على طبيعة الولاء للهوية الوطنية في كل قطر عربي، ويرسم صورة عن ماهية الهوية العربية، وإجراءات تشكيلها وإعادة تشكّلها. وهناك شكوك مشابهة يمكن طرحها حول ما إذا كان الإعلام المتخطي للحدود القومية، وما يتبعه من محتويات وتكنولوجيا وصناعات إعلامية، سيؤدي إلى تفريخ ثقافات متخطية للحدود الوطنية، وثقافات ما بعد الوطنية. هناك الكثير من المواقف التي استنتجت أن عولمة الإعلام تعيد رسم الحدود الثقافية المحددّة وطنياً، وتضعف من الخرائط الثقافية والخطط المرسومة وطنياً ومحلياً، أو حتى تجعلها عديمة الفائدة أحياناً. إن العولمة كما هو معروف عنها ضغط للزمان، وتحطيم للمكان، وتقليص للمسافات، والتخطي عبر الحدود القومية، ترى وكأنها الصفة الرئيسية للعالم الراهن. وبطريقة ما، فإن عولمة الإعلام الإلكتروني أدى إلى تمدّد أساسي للإجراءات الأولى القائمة على احتواء المسافات والأمكنة الجغرافية، لتطويعها وجعل أمر التحكم فيها ممكناً وسهلاً.

 

وإن الإجراءات الحالية لعولمة الإعلام الإلكتروني تقوم على الأسس نفسها، وتصل إلى النتائج نفسها، وهو تقديم أكبر قدر ممكن من الجماعات الثقافية العالمية على حساب تلك المحلية. إن تكنولوجيا الإعلام الحديثة قادرة على أن تفصل المكان عن الهوية، وتقفز فوق الحدود الثقافية والسياسية وتزيد من ضعف الشعور بالانتماء المرتبط بالمحلي والوطني، وتعمل على تقويضه وتنسج هويات غير متعلقة بالحيز المكاني، وتقلل من شعور الانتماء إليه. فالتحولات التكنولوجية قد غيرت جذرياً حدود المكان وما يتعلق به من قضايا اجتماعية وظواهر ونظم. ولقد أثار النقطة هذه التيار التكنوـ المتشدد، حيث إن الجماعات المنفصلة عن بعضها الآخر أساساً بواسطة المكان تميل إلى إنشاء تجمعات وجماعات تطوير روابط اجتماعية تجمع فيما بينها أبعد من المحلي والوطني، وذلك إذا تواصلت فيما بينها تكنولوجياً، واستهلكت وتعرضت للرسائل الإعلامية نفسها.

 

إن ضغط عاملي الزمان والمكان يؤدي إلى إنشاء وعي جديد، وحينها تنفصل الحدود عن الهوية، ولا يعودان متحالفين. بالنسبة لتيار ما بعد الحداثة، فإن الأمر المحيّر بالنسبة للوطنية ـ استحالة حصرها وشبكها ضمن نطاق الحدود الجغرافية ـ يتجذر من الحقيقة أن الإعلام قد قلّل من شأن عنصر المكان كوعاء ومحتوى للهويات الوطنية. فاستمرار هويات الشتات غير المحصورة بالحدود الوطنية قدمت الدليل الواضح والملموس على أنه في نطاق العولمة، فإن الإعلام العالمي يتجاوز تعريف الهويات، ونظم الحياة التي تتجاوز حدود الدولة والهويات الوطنية.

 

إن الهويات المشكلة بعناية، والمصوغة حسب قوالب الدولة والمدمجة بعناية كانت موجودة في الماضي، وكانت حالات تاريخية غير سوية، وهي نتاج ورمز من رموز ونتاجات الحداثة. وهذه الهويات في طريقها إلى الزوال نتيجة التحولات الثقافية والإعلامية. إن رحيل الحداثة وحلول التجزئية الثقافية يجعل من المستحيل تحقيق الآمال بإقامة ثقافات وطنيّة موحدة. والتناغم الثقافي تقمّص الواقعية المتكاملة للحداثة وهذا المشروع بات تحقيقه مستحيلاً نتيجة التدفق المتعدد والمتواصل للمعلومات، والتي تمر عبر الحدود الوطنية والصعوبات الحاصلة لجعل الحدود الثقافية مغلقة بإحكام.

 

فسيناريو نهاية العصر من عمليات التشتيت وديناميكيات الإبعاد عن المركز تشير إلى أزمة ثقافة الحداثة وتعبّر عن نهايتها، والتي كانت الوطنية إحدى نماذجها ونتاجاتها. فالمفهوم الحداثي للجماعات والتجمعات الوطنية يفهم ككل ثقافي متكامل، والذي يستمر ويبقى على مرّ الزمن ويتحدى الخصائص المتغيرة دوماً، والسريعة الزوال للثقافات الوطنية. بالمقارنة مع الإمبريالية الثقافية، فإن الإستنتاج هو أنه لا يوجد هناك توحّد ثقافي حاصل من الوجود العالمي للإعلام الغربي، مهما كان نوعه، أو أي نوع من التشابه الثقافي. أما تيار ما بعد الحداثة فإنه يقيّم بإيجابية وتفاؤلية التعدّدية والتجزئية للهويات. وبعيداً عن الاختلافات النظرية ما بين ما بعد الحداثة وجدالات الإمبريالية الثقافية، فإنهما معاً يضعان في المقدمة الدور الأساسي لتكنولوجيا الإعلام في صنع الحدود الثقافية. وهما بهذا يغلقان على الجدالات القائمة حول تكنولوجيا الإعلام وأثرها في التنميات الثقافية.

 

وعن طريق دمج سهولة الوصول إلى المعلومات وإتاحة الإعلام واستمرارية التعرض له مع الهوية، وآثار ذلك فيها وفي تشكّلها، نصل إلى استنتاج قوي حول الآثار الثقافية الحاصلة من التكنولوجيا:

إن التوزيع الوطني والعالمي لتكنولوجيا الإعلام وتوسّعه وازدياد استهلاكه، له نتائج مؤثرة في تشكّل الهوية للثقافات الوطنية والعالمية. إن تقدم تكنولوجيا الإعلام يسهّل نشوء وقيام وعي جديد، أي التعرف على روابط عامة تبلورت في هويات وطنية ومتخطية للحدود الوطنية. فالإعلام الاتصالي يقدّم وعياً حول الأماكن البعيدة والعوالم الشاسعة، ومن ثمّ يؤدي إلى ولادة وعي ثقافي ومعرفة ثقافية جديدة.

 

إن مشكلة أساسية للاتجاهات القائمة على التكنولوجيا والمتعلقة بصنع الحدود الثقافية هي: معادلة الإتاحة الإعلامية، والتعرض للإعلام، مع الأخذ بالحسبان المشاعر المشتركة للتجمعات والجماعات الثقافية. ذلك أن الوعي بالأحداث الحاصلة بعيداً  والأماكن البعيدة والثقافات المختلفة، والذي يصبح سهلاً بواسطة التعرض للإعلام، لا يعني بالضرورة إقامة التجمع والمساهمة في تكوينه، ولا تتم ترجمته فوراً إلى روابط للوحدة داخل التجمع، أو لصنع الهوية الوطنية أو المتخطية للحدود الوطنية. إن الإشكال هذا نابع من الخلط ما بين الوعي والهوية لاستيعاب وامتصاص مجموعة من جمهور الإعلام مجهّز بالتكنولوجيا، مع مجموعة أخرى تشترك بحس التجمع الثقافي. وقد يشاركه الجمهور/ المستمعون/ القراء/ المشاهدون مع غيرهم، بعيدين عنهم، عندما يتعرضون معاً للإرسال الإعلامي، وللأحداث المرسلة إليهم عن طريق الإعلام، وينمّون وعياً، وأن آلافاً من المشاهدين غيرهم، أو حتى ملايين هم يشاهدون الصور ذاتها، والبث ذاته، ويتعرضون للإرسال عينه، أو يقرؤون الصحيفة ذاتها، وهم أبعد من محيطهم المباشر، هذا الوعي بجمعية التأثير، ووحدانية الإرسال أو الإعلام، يجعلهم يشعرون بالانتماء وينمي عندهم الحس بالهوية. إلا أن تشكّل الهوية لا يمكن عزوه إلى هذا الوعي فقط.

 

إن العلاقة ما بين الإعلام والهوية والمجال، تحتاج إلى أن توضع ضمن مجال البناء الثقافي، جاعلة التكنولوجيا جزءاً من الإجراء الهادف إلى بناء المجموعة عوضاً عن العامل الدافع ـ التعويذة التي تفتح أشكالاً جديدة من الوعي وتحديد الهوية. لذلك فالإعلام قد يلعب دوراً حيوياً، ولكنه يكاد يكون الآلة التي تعمل على صنع الروابط العامة. فاللغة المشتركة والماضي المشترك والدين الواحد، والتقاليد المشتركة، هي من أهم العناصر المساعدة للمجموعات والجماعات على الوجود والاستمرار والاستقرار وهي من أهم ظواهر الوحدة الوطنية والهوية الوطنية، والهويات الثقافية الجامعة. إلا أن الأسئلة الآتية تثير بعض الإشكاليات المتعلقة بالإعلام والهوية.

 

هل التكامل الاقتصادي مترافقاً مع الإعلام وما يحتويه من الأخبار والصور المنتجة والموزعة إقليمياً يؤدي إلى وطنية إقليمية؟

 

هل إن إشراك الناس معاً في تجمعات متخيّلة وذلك من خلال الاستهلاك اليومي للإعلام، يغذّي وعياً جديداً؟ هل لنا أن نتوقع العولمة الاقتصادية والعولمة الإعلامية بتغيير جذري لمركزية المكان في تشكيل الهويات في المجتمعات والمجموعات البشرية؟

 

حتى ومع وجود الخلفية المشتركة، فإنّ التكامل الإقليمي النامي والمغذّي بواسطة السياسات الاقتصادية وتطور الإعلام، قد لا يكون ذلك كافياً لإنتاج هوية متخطية للحدود الوطنية تستقطب العواطف الوطنية والاختلافات. فإنّه يفترض ألاّ يتوقّع الكثير من طاقات الإعلام المرئي والمسموع في التأثير في الهويّة في المحيط المتخطّي للحدود الوطنية.

 

إنّ التأكيد على أنّ وجود الإعلام المتخطّي للحدود الثقافية يقلّل من تعقيد مسألة تشكّل الهوية، ويحوّل قضية تشكّل الثقافات الوطنية والعالمية إلى سؤال إعلامي. وإذا أخذنا قضية الهوية، فيجب دراسة كيف استطاع المواطنون التعرف على الروابط الثقافية والمحافظة عليها. والناحية الأساسية هنا، هو تأسيس الهويات ضمن العلاقات والاتصالات الإنسانية والاجتماعية، وليس خارجها. فالنشاطات التواصلية تؤلف فيما بين المشتركين فيها والظرف الذي يعتقدون أنّه سائد فيما بينهم. وبناء على هذا، فإنّ الهويّات الوطنية تتطلب ـ كما الهويات المتخطيّة للحدود الوطنية ـ عملا تواصلياً، والذي يفهم على أساس أنّه عمل تأسيسي وتكويني. وهذا يختلف عندما نحدّد مفهوم الاتصال على أنّه معلومات، وهو تحديد يشير إلى نظرات مقنّنة وموّحدة، ترى أنّ نشوء الثقافات الوطنية والعالمية يحصل عندما تبث وسائل الإعلام المعلومات وتقيم النقاشات والحوارات مع الأشخاص كأعضاء من ضمن المجموعة الثقافية.

 

وبناء على قوّة الوطنية أو ضعفها، وبناء على الأدبيّات الكبيرة التي توثق جهود المؤسسات القديمة لتمتين روابط المجموعات الوطنية، فإنّه يصبح واضحاً أنّ دور الاتصال الحيوي والهام هو كمؤسّس ومكوّن أكثر من كونه فقط ممارسات معلوماتية، وهذا الذي يؤثر في الهويّات الوطنية. ويبدو أنّ الأمر هذا صعب التطبيق على حالة الهويات المتخطيّة للحدود الوطنية. إنّ عولمة الاتصال الجماهيري مترافقاً مع توسّع الأسواق العالمية ضخّم وكبّر التوزيع العالمي للمعلومات. فمعرفة تكنولوجيا المعلومات والإعلام ومؤسساتها تستطيع الوصول إلى أبعد من المحلّي أمر مهم، ولكنه ليس كافياً لحساب كيف يمكن للهويّات العالمية وما بعد الوطنية أن تنشأ.

 

إنّ الإعلام وتكنولوجيا المعلومات تربط المسافات وتردم الهوّة الفاصلة بينها، وتغذي نموّ التآلف بين المجموعة، وتساعد على نمو نوع جديد من الوعي، ولكن تشكيل الهوية يتطلب فوق هذا، إجراء معقداً للتشكّل الثقافي. ومن تمّ فإنّ تفسيراً حول الاتصالات ذات التوجهات الوسائطية كجزء من ديناميكيات ثقافية وسياسية أوسع يجب أن يدرس ويؤخذ في الحسبان عوضاً عن أن ترى الهويّات الثقافية كناتج فقط من التطورات الإعلامية. فالتكنولوجيا الرقمية وتكنولوجيا المعلومات والإعلام إن لم يحكمها عقل متطور، تصبح عديمة الجدوى. فإننا نلاحظ مثلا: أن التقنيات المستعملة لدى بعض البلدان العربية هي من أحدث ما هو متوافر في أسواق الدول الصناعية، والعرب من أكثر المستهلكين لها في العالم، حتى غدت بعض المحطات الإذاعية والتلفزيونية العربية مَعارض لأحدث وأضخم ما هو متوافر في العالم.

 

ويبدو أننا نحتاج إلى مفهوم موسع للمواطنة يشمل كيف يقوم المواطنون بتنمية المشاعر بالعضوية السياسية، ويقومون بتطوير هويّاتهم الوطنية المتراكمة والمتسرّبة في جذورهم تاريخياً، أبعد من السياسات المنظمة. فالمواطنة لا يجب ألاّ تحصر فقط ضمن النموذج الكلاسيكي من الارتباط بالروابط السياسية والهادفة إلى التأثير في سياسات الدولة، إن مفهوماً معدّلا عن المواطنة يجب أن يأخذ في الحسبان أيضاً، كيف ينمّي الناس الروابط الثقافية في المجتمعات والجماعات المحلية والوطنية من خلال التفاعلات اليومية، وكيف يطوّر المواطنون عواطف الانتماء للمجتمعات السياسية من خلال الاشتراك في مجموعة من شبكات الاتصال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؟

 

فحتى يكون المرء مواطناًً، فإن ذلك لا يرتبط مباشرة فقط بالحقوق التي أعطته إياها الدولة، التي ولد ضمن حدودها، ولكن يرتبط أيضاً بالممارسات الاجتماعية والثقافية والسياسية والتي تعطي حساً بالانتماء، وتجعل من أولئك الذين يشتركون في لغةٍ واحدة ونظم متشابهة من التنظيم ومن إشباع حاجاتهم، يشعرون بالتميّز من غيرهم من المجتمعات. وبشكل عام، فإنّ عولمة الإعلام، تؤدّي بأشكال الروابط الاجتماعية المحلية والخبرات الوطنية إلى الاختناق والاضمحلال، كما أنّها في الوقت نفسه لا تؤدي إلى ترسيخ وتمتين الثقافات المتخطية للحدود الوطنية.

 

إنّ فكرة أنّ الفضاءات والأماكن لا توجد في المجرد، ولكن تمّ بناؤها ثقافياً، يساعد في الحدّ من الادعاءات القائلة بأنّ الهويات الوطنية ماتت وذهبت أشلاء تذروها الرياح نتيجة العولمة واللامركزية المكانية الظاهرة في الخبرات الإنسانية. ويبدو أنّنا نسرع في الاستنتاج أنّ ضغط الزمان والمكان هو من خبرات ما بعد الحداثة. إنّ أهمية المكان في إجراءات بناء الوطن، أو في نشوء الهويات المتخطية للحدود الوطنية لا يمكن التقليل من شأنه: فالمكان أو الفضاء ليس مفهوماً جغرافياً فقط، ولكنه يبنى من خلال عملية صنع الحدود الثقافية. أكثر من هذا، فإنّ استمرارية تعريف الأوطان المعاصرة في علاقتها مع الأوطان الأخرى المجاورة، تقف حاجزاً في وجه الهويّات المتخطية للحدود الوطنية، كما أنّ استمرارية الهويات الوطنية عن طريق الإلغاء للأوطان الأخرى يجعل من الصعوبة تخيّل احتمال أن تتكامل تلك الأوطان مع بعضها الآخر، كجزء من مجتمعات إقليمية أو حتى محلية. فالسؤال هو: على أيّة أسس يمكن للمجتمعات المحلية أو الإقليمية أو العالمية أن تبنى عندما تقوم الأوطان ليس فقط بالمقاومة لتبقى على قيد الحياة، وحتى لا تزول، بل لتبقى معارضة سلبياً للأوطان الأخرى؟ أي بكلمات أخرى، هل لا تقوم الأوطان وتبقى إلاً بالمجاهدة والصمود؟ وهل على الثقافات كي تستمر وتزدهر أن تجابه ثقافات أخرى وتصمد؟ وهل لازال مبدأ القوة هو المعين الأساس للبقاء؟ وماذا عند ذلك عن بناء وتشكيل الهويات الوطنية؟.

 

إنّ عملية تعزيز المجتمعات الوطنية عن طريق الشعور بالخطر من المجتمعات الأخرى، وطموحاتها، يؤدي إلى إبعادها عن بعضها الآخر، وإلى الإساءة إلى بعضها الآخر، وإلى التقليل من احترام الإنسان للآخر ماضياً وحاضراً. ويبدو هذا من الخلافات على الحدود، وإعادة رسمها وتحديدها مرات ومرات. ولا يبدو أنّه يوجد بديل مساوٍ لنموذج بناء الوطن، والذي يستطيع تشكيل الهويات الوطنية بكفاءة وفعالية. فإن بنيت الحدود الثقافية بناء على الاختلاف، فمن ذا الذي يشمل أو يعزل في الهويات الإقليمية أو العالمية؟ وضد من يمكن أن تصوّر هوية وطن ما؟ وبناء على أي فروقات مميزة يمكن أن تبنى هوية ثقافية ما؟ ومن أين ننشئ ثقافة عامة متخطية للحدود الوطنية؟ وما الذكريات التاريخية والطقوس، والحياة المشتركة التي يجب أن تقام لإقامة الهوية الوطنية؟ وكيف يمكن لنا صياغة سياسات العزل والضم، سياسة ألـ ' نحن ' وألـ 'هم' وما لنا 'لنا' وما لهم 'لهم'؟ وما الخطوات اللازمة للمرور والوصول إلى المجتمعات المتخطيّة للحدود الوطنية؟

 

فالطاقات التكنولوجية المتفجرة لا تؤدّي بشكل آلي إلى إنشاء أشكال جديدة من الوعي والهوية. فوجود فضاء عالمي وعام إعلامي ليس مترادفاً مع الاهتمامات والثقافات والهويات المشتركة. إنّ احتمال المشاركة الحوارية والرمزية بين الأوطان والشعوب والجماعات تبدو مجمعة وغير عملية، في عالم معولم يعتمد على المشاركة أكبر من المواطنة 'المنتقاة' و 'المصفاة' بواسطة التطورات المحلية والوطنية. والانفجار الواسع في تكنولوجيا المعلومات والإعلام، وفي عالم ينقسم إلى قسمين: مفعم بالتكنولوجيا ومتخم بها وآخر محروم منها.

 

إنّ تكنولوجيا الإعلام تمدّ الجسور عبر المسافات، وترمّم الفراغات فيها، وتسهم في إيجاد وعي جديد، ولكن عملية تشكيل الهوية تستلزم فوق هذا إجراءً أكثر تعقيداً عن طريقه يتم تحريك الجماهير وتكاملها، وبذلك توجد الهويات وتستمر، لكنها لا تمحى ولا تستأصل، ولا تجعل من المكان ذا أهمية في عملية تشكيل وتفسير الهويات الوطنية والمحلية، إلاّ أنّ الحاجة ماسة إلى دراسات لتفسير وتحليل كيف أنّ الإجراءات الثقافية والسياسية، كأعمال تواصلية واتصالية تؤسّس للهويات، وتوجد الأحاسيس المتداخلة حول المكان والانتماء العامّ المحلي والعالمي للهوية الثقافية والوطنية.