تحليل

لعبة التوازن في العلاقات الدولية

عبد الغني القاسمي

القصد الأساس من العلاقات فيما بين دول العالم في مجملها هو خدمة المصالح المشتركة سواء الثنائية منها أو المتعددة الأطراف  في مختلف المجالات كالسياسية و الاقتصادية و الثقافية و الاجتماعية  ، ثم يأتي في المقام الثاني تكريس المبادئ و القيم التي تلتزم بها الأسرة الدولية و التي تعتبر قاعدة أساسية للقانون الدولي تهدف الى جعل هذه العلاقات تتخذ وسائل ضامنة لبلوغها القصد المنشود ، و من بين هذه الوسائل تقنين التعاون المشترك عبر ابرام اتفاقيات و مد العلاقات بين الدول بروح التضامن وحماية الأمن و السلام العالميين و المحافظة على أسلوب التوازن بهدف عدم استفادة مطلقة لأية دولة على حساب أخرى و هو ما ينطبق أيضا على التكتلات الاقليمية التي يجب ألا تتحول الى قرش يفترس الأسماك الصغيرة ، خاصة ونحن في زمن العولمة و مناطق الاقتصاد الحر.

و أركز هنا على حالة الدول الأكثر غنى في علاقاتها مع دول لاتمتلك ثروات كافية لسد حاجياتها لتنمية قدراتها أو تعاني من الفقر و العجز و التخلف  ، فترى الدول الأولى تستنزف ثروات الدول الثانية بشتى الطرق – وهي محدودة في كل حال -  رغم ادعائها بأنها تود انتشالها مما تعاني منه من أوضاع الفقر بمختلف تجلياته و تمدها بمساعدات لا ترقى الى مستوى ما تستفيده منها ، و هو نوع لا غبار عليه من الاستغلال البشع و فرض التبعية و الاحتكار و غيرها من مظاهر الاستعمار الجديد التي اكتسحت مناطق واسعة في العالم و تمثل خرقا لكل المواثيق الدولية والحق الطبيعي للدول الأقل نموا في اللحاق بركب التنمية و التقدم ، ذلك الحق المنصوص عليه في الميثاق العالمي لحقوق الانسان .

لقد أصبحت أنظمة الحكم مراعية أكثر من الماضي لمطالب شعوبها في التحرر من العبودية و الاستبداد حتى لا يصير مصيرها الى زوال ، فبارتفاع منسوب الوعي الديمقراطي أمست الأنظمة الفاسدة هشة و لا تقوى على مواجهة المد الجماهيري الذي لا يقنع بأشباه و أنصاف الحلول لمشاكله و قضاياه المعبر عنها في خروجه الى الشارع للاحتجاج و الاعتصام و المقاطعة و التمرد بعيدا عن كل توجه ايديولوجي أو استعمالات حزبية متهالكة ، و من البديهي أن يؤثر كل ذلك في وضع صيغ جديدة للعلاقات الدولية تحترم ارادة الشعوب الأقل نموا بشكل خاص ، و في كل مؤتمرات و ملتقيات حوار شمال جنوب التي ترعاها الأمم المتحدة أو التي تبادر بها  التكتلات الاقليمية ترتفع أصوات دول الجنوب – تحت ضغط الشعوب – مطالبة بتفعيل لعبة التوازن التي ترضي الجميع في التعاون الدولي ، حيث لم تعد كلمة الدول الغنية و القوية في وسعها الاستحواذ بسهولة  على اتخاذ القرار، كما أن تحكمها في ترويض الدول الفقيرة قد تراجع نسبيا عما كان فيما سبق رغم أنه لم يلفظ أنفاسه بعد في بعض أرجاء العالم .

و من جانب آخر ، يلاحظ أن بعض النزاعات بين دول أطراف في تكتل اقليمي معين تتفاقم لدرجة تجعله مشلولا و عاجزا عن بلوغ الهدف من تأسيسه لأن آلياته مجمدة بفعل تأثرها بالوضع المؤسف الذي تعاني منه  تلك الدول – و من الأفضل أن أقول بين أنظمتها - التي تصل أحيانا الى مرحلة القطيعة فيما بينها كما هو الحال في منطقة المغرب الكبير حيث أصبحت العلاقات بين النظام الجزائري و المغرب و خاصة في عهد ي بوتفليقة و كايد صالح و عصابتهما على كف عفريت و تنذر بأوخم العواقب ، و السبب في ذلك يعود الى رعونة و تعنت قصر المرادية و قيادة الأركان في التفاعل مع مسألة السيادة الوطنية و الوحدة الترابية المغربية  ، و من نتائج ذلك أن مشروع بناء وحدة المغرب الكبير صار حلما و سرابا وشعارا لا يحظى بالأولوية ، و هو مشروع لا زالت شعوب المنطقة تتلهف الى ذلك اليوم الذي يتحقق فيه على بساط الواقع ، و طالما أن لعبة التوازن في العلاقات لاتراعي المصالح المتبادلة بين دول المنطقة و احترام مبدأ حسن الجوار غائبا أو مؤجلا فيما بينها فالمشروع سيظل حبرا على ورق لزمن غير محدد .