تحليل

الكَلامولوجيّون الجُدُد

عبد الدين حمروش

لم أعد أتذكر أين وقع بصري على هذا "المصطلح"، حين كنت بصدد قراءة إحدى التدوينات أو المقالات. وحسبي، بعد وقوعي على المصطلح، تحية "ناحِتِه" المجهول، الذي أراد به اختزال ظواهر "صوتية" أخذت، منذ مدة ليست بالقصيرة، تغزو برامج القنوات العربية،  وضمنها المغربية "في شخص" الأولى ودوزيم. الكلامولوجيا غدت تختزل تدخلات المشاركين في البرامج السياسية الحوارية، الذين لا يسأمون من التفنن في عرض بضاعاتهم الكلامية المكررة، دون أن يبلغوا ما يفيد الموضوع عن قصد أو عن غير قصد.

بالنسبة لحالة غير القصد، يمكن للمرء تَفهُّم موقف بعض المتدخلين، ممن يجدون أنفسهم أمام الكاميرا، حيث لا حيلة لهم، أمام قلة زادهم، غير "تدوير الكلام"، مع الحرص على إبراز بعض المصطلحات، أو الاستشهاد ببعض الأقوال/ المقولات المأثورة. والواقع أنه أشدّ ما يزعجني، شخصيا، أصحاب هذا "الصنف" من الكلامولوجيين، حين ينتقلون إلى الكتابة، عبر تدبيج سرديات نصية طويلة، لا يُعرف لها رأس ولا قدم. تمطيط الكلام، بصفته وسيلة لإنهاك القارئ، ومن ثمّ إتاهته في التفاصيل، هو البديل عن قول ما يجب أن يقال "في المُحصِّلة".

وعلى الرغم من مساهمة أولئك في تمييع القضايا المطروحة، إلا أن أصحاب "حالة القصد" من الكلامولوجيين، هم الأخطر على "الحقيقة" المفترضة. تأتي خطورة الأخيرين من كونهم يدركون صلب القضية (الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، إلخ)، ومع ذلك فإنهم يمتنعون عن الدخول إليها من مداخلها السياسية. وبالطبع، فالوسيلة إلى ذلك لا تخرج عن إطار اللجوء إلى الكلامولوجيا. سلاسة التعبير، إضافة إلى ما تقتضيه من حيل بلاغية وحذلقة حجاجية، تعينهم في الخوض في الكلامولوجيا بنجاح. بشكل عام، غالبا ما يُعجب المشاهد بعبارة هنا، باستدلال مُخاتل هناك، مما يندلق على لسان الكلامولوجي اندلاقا. غير ذلك، لا طرح للأسئلة الحقيقية من جهة، ولا وجود للأجوبة "الحارقة" من جهة ثانية.

أوضح حالات الكلاموجيا، هي تلك التي يجسدها معظم أساتذة العلوم القانونية والاقتصادية والسياسية. وبموازاة أولئك، يمكن الالتفات إلى عديد من النشطاء الجمعويين، الذين وجدوا أنفسهم، بحكم اشتغالاتهم حول الطفولة والمرأة والبيئة والديمقراطية، من مُدمني الكلامولوجيا على قنوات الراديو والتلفاز. الاستمرار في تحصيل المنافع الريعية، في إطار شعارات مدنية/ حداثية، تظل الدوافع الحقيقية إلى توهج درجة الكلامولوجيا لديهم، وبخاصة في ظل غياب/ أو تغييب الخلفية السياسية الواضحة والمؤطرة (بالراء المكسورة والمنصوبة).

أساتذة الجامعات، علاوة على النشطاء الجمعويين، يمكن إدراجهم ضمن صنف الكلامولوجيين بـ"غير القصد". في مقابلهم، يبدو أن السياسيين، الذين اختاروا الكلامولوجيا وسيلة وهدفا، هم الأخطر ممن يمكن أن تتمخض عنهم "صنوف" الكلامولوجيا. إضافة إلى كل ما يحوزه الكلامولوجي من مواهب، هناك الخلفية السياسية وشعاراتها وفنونها و"اقوالبها". ولذلك، ليس هناك من يهدد "الحقيقة" المفترضة من الكلامولوجي المشتغل بالسياسة. بكل يسر وسلاسة، غالبا ما يحتلّ مُتبني الكلامولوجيا السياسية قلب البرنامج. خطابه السياسي "التقدمي"، المُنكَّه بشعارات الحداثة، يجعله واقعا تحت الطلب المكثف من قِبَل البرامج التلفزية. الأمر يتعلق بـ "ضيوف على المقاس"، من منطلق حرفيتهم في "قول كل شيء ولا شيء": الدوران حول القضايا، من دون الدخول إلى صلب الإشكال، الاهتمام بالعرض على حساب المضمون، الاهتمام بالشعار دون الخلفية- المبدآ، العناية بالمقدمات من غير ترتيب النتائج المطلوبة، إلخ.

أخطر ما يمكن أن تبلغه الكلامولوجيا السياسية، أن ينسى صاحبها لسانه السياسي، مُستعيرا، بدله، لسان التكنوقراطي. هنا، تكفّ السياسة عن أن تكون "سياسة"، فبالأحرى أن تكون تقدمية في عمقها الاجتماعي- الإنساني. الخطاب العملاني للتكنوقراطي، بصورة من الصور، يعفيه من أية تبعات أخلاقية، مترتبة عن اختيارات سياسية معينة.

حين نتابع النقاش الدائر حول النموذج التنموي المأمول، نجد كثيرا من العناية بتحليل الخطاب، الاهتمام باللغة الواصفة، الانصراف إلى التشخيص التقنوي...لكن، قليلا من السياسة. أليس المدخل إلى النموذج النموذج التنموي الجديد سياسيا؟ أليس له علاقة باختيارات السلطة?

في الأخير، ألا يقتضي البحث عن نموذج تنموي جديد عرضا سياسيا جديدا، و وضعا حقوقيا منفرجا،  وإعلاما حرا متوثبا...؟

بعبارة أخرى، الكلامولوجيا هي "لغة الخشب"، حين يمتنع السياسي أو المسؤول عن قول ما ينبغي أن يقال.