تحليل

وتتواصل الدروس الملكية البليغة...فهل من حكومة رشيدة؟

اسماعيل الحلوتي

ليست وحدها خطابات الملك محمد السادس، بما تتضمنه من تشخيصات دقيقة لأوضاع البلاد والعباد، وتوجيهات سديدة وانتقادات شديدة لمدبري الشأن العام، هي التي تستأثر باهتمام المغاربة، باعتباره رئيس الدولة، الضامن لدوام استمرارها وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة ومصدر القرارات العليا. وبصفته مسؤولا عن رسم معالم طريق الإصلاحات الكبرى، بعد معاهدته الله على قيادة الشعب المغربي بصدق وأمانة في اتجاه تحقيق الديمقراطية والحرية والعيش الكريم، أمام إجماع وطني على ثوابت الأمة ومقدساتها، بدءا بالمؤسسة الملكية الساهرة على حسن سير المؤسسات، والحريصة على تحسين ظروف عيش المواطن، من خلال إطلاق الكثير من المبادرات والمشاريع التنموية العملاقة...

بل هناك كذلك اهتمام واسع ببلاغات القصر الملكي، لما تحمله معها من قرارات مباغتة ومهمة، طالما أثلجت صدور المواطنين في عديد المناسبات، بفعل صرامتها وحزمها في تفعيل مقتضيات الدستور من حيث الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة، وتفاعلها الإيجابي مع نبض الشارع وموجة الاحتجاجات الشعبية، وخصوصا في أوساط فئة الشباب التي تشكل نواة المجتمع الأساسية، والركيزة القوية التي بدون رعايتها لا يمكن بناء المستقبل المشرق.

ونستحضر هنا وبعجالة بلاغي الديوان الملكي التاريخيين وغير المسبوقين، اللذين صدر أولهما في 15 مارس 2017 يعلن بمقتضى صلاحيات الملك الدستورية عن قرار إعفاء الأمين العام لحزب العدالة والتنمية عبد الإله ابن كيران من تشكيل حكومته الثانية، إثر إخفاقه في تكوينها على مدى حوالي ستة شهور، مما أدخل البلاد في حالة جمود وانعكس سلبا على الحياة السياسية وسير المؤسسات. فيما جاء البلاغ الثاني يوم 24 أكتوبر 2017 طبقا لأحكام الفصل 47 من الدستور يقضي بإقالة عدد من الوزراء والموظفين من مهامهم، لتعثرهم في تنفيذ مشاريع تنموية مبرمجة "الحسيمة منارة المتوسط"، وما ترتب عن ذلك من حراك شعبي بمنطقة الريف.

ففي إطار سعيه الدؤوب إلى تحريك البنيات الراكدة وخلخلة العقليات التقليدية، شرع ملك البلاد في إرساء قواعد مرحلة جديدة، تتأسس على القطع مع بعض الأساليب المتجاوزة، التي تعرقل مسار التنمية. حيث أصدرت وزارة القصور الملكية والتشريفات والأوسمة بلاغا يوم الجمعة 14 يوليوز 2019، تعلن عن قراره بتوقيف الاحتفال الرسمي بالقصر الملكي لعيد ميلاده، الذي جرت العادة منذ عام 2000 أن يخلده يوم 21 غشت من كل عام غداة الاحتفاء بذكرى ثورة الملك والشعب، التي تجسد أرقى صور التلاحم بين العرش والشعب في إحباط مناورات المحتل الغاشم والانعتاق من نير وصايته الاستعمارية.

وجدير بالذكر أن هذا البلاغ جاء على بعد شهر من بلاغ آخر صدر يوم 14 يونيو 2019 وشكل سابقة في تاريخ بلاغات القصر، إذ دعا مختلف المؤسسات والهيئات والفعاليات الوطنية إلى الاحتفال بالذكرى العشرين لتربع الملك على العرش التي تصادف 30 يوليوز من كل عام، بطريقة عادية ووفق العادات والتقاليد المعهودة، ودون أي مظاهر إضافية.

وهو ما أثار عدة تساؤلات في أوساط المجتمع، لاسيما أن البلاغين لم يأتيا بتوضيحات عن خلفيات القرارين الداعيين من جهة إلى تفادي المغالاة في تخصيص ميزانية العمالات للاحتفال بعيد العرش، وتوقيف الاحتفال الرسمي بعيد ميلاده في القصر من جهة ثانية. فكان أن تعددت القراءات وتناسلت التحليلات السياسية، إلا أن هناك شبه إجماع على أن الأمر لا يعدو أن يكون سوى خطوة أخرى في طريق التغيير، حيث أن الملك لم يكف يوما عن بعث إشارات واضحة وإعطاء دروس بليغة في الوطنية وروح المواطنة الخالصة، من حيث الشفافية والإخلاص في العمل، احترام الدستور واختصاصات

المؤسسات الدستورية والالتزام بالقوانين. ويتجلى ذلك في الإرباء بنفسه عن التدخل في تشكيل الحكومة أو الضغط على الأحزاب السياسية، سواء في عهد رئيسها السابق ابن كيران أو الحالي العثماني.

بيد أن جل القراءات تتفق على أن القرارين الملكيين يندرجان في إطار حقبة جديدة ترتبط ب"الملكية المواطنة" التي تتقاسم مع المواطن همومه ومشاعره. فسياسيا هما دعوتان صريحتان إلى الحكامة وترشيد النفقات والحيلولة دون مواصلة استنزاف المال العام في احتفالات باذخة واستغلالها في أجندات سياسية من قبل جهات لا يهمها عدا خدمة مصالحها الذاتية والحزبية الضيقة. بينما يتعلق الأمر اقتصاديا بالحد من التبذير وخفض الميزانيات التي تكلف وزارة الداخلية وباقي المؤسسات موارد مالية ضخمة، إن على مستوى التجهيزات أو إقامة المآدب أو تمويل سفريات قادة وزعماء ومسؤولين كبار من مختلف الأقطار. وهي الأموال التي يتعين استغلالها في اتجاه تحسين ظروف عيش الفقراء والمعوزين. أليس الملك نفسه من اعتبر في خطابه الأخير أن تجديد النموذج التنموي الوطني هو المدخل للمرحلة القادمة، داعيا إلى القطع النهائي مع التصرفات والمظاهر السلبية، وإسناد المسؤولية الحكومية والإدارية إلى طاقات شابة فاعلة ومنتجة على أساس الكفاءة والاستحقاق؟

 إن بلادنا تمر بتحديات اقتصادية واجتماعية صعبة ولم تعد بحاجة إلى المزيد من الوعود الكاذبة والشعارات البراقة. لذلك يدعو الملك بشدة إلى مرحلة جديدة تجعل مصلحة المواطن فوق كل اعتبار، من حيث الشعور بمشاكله وأوجاعه وتلبية انتظاراته، مما يستدعي مضاعفة الجهود وتدارك النقائص، والعمل على وضع خطة محكمة واختيار نخبة مؤهلة لتحمل المسؤولية، حريصة على الصالح العام وقادرة على كسب رهانات الإصلاح والتغيير المنشودين. فهل يكون التعديل الحكومي المرتقب انطلاقة حقيقية نحو الارتقاء بالأوضاع ؟