رأي

مصطفى غلمان: التاريخ الذي لا نحبّ ...

التاريخ يُكتب ليلاً والموظفون نائمون، يصحو الموظفون صباحاً ينفذوه ليس أكثر.

- توماس بينشون –

إني أقرأ التاريخ لأعرف كيف أعيش، إذ المكتوب منه معلوم بالخداع والتمويه، وليس أقل ما يستدرك من ذلك غير الحذر من أن يتسلل إلى قيم العيش تلك أغلال تمنع العقل من أداء وظيفته في إماطة الأذى وإزالة الشوائب .

كثيرا ما يستفزني سؤال المعنى من مدى قدرة التاريخ على إعادة تدوير وصياغة الحياة. فالأخطاء القاتلة التي تغطي صفحات من التدوين والتوثيق تفضي إلى حتمية إنسانية لامتوقعة، يصير فيها الباطل حقا والظلم والاستبداد عدالة وانصافا والتفرقة وحدة والشر خيرا .

ويكبر السؤال ويحتد عندما تكرس هذه الفرضيات الخطيرة في مناهج تعليمنا وخططه أسيرة النقصان والتعتيم .

ماذا يكون الحال لو اعتملت كل تلك الحروب والاحقاد وصنائع الوهم والاستخبار على مستقبل الأمة حيوات أجيال كانت تأكل عوادم التاريخ ونفاياته دون تجويد آليات القرء ونظمه النقدية.

كارثة عظمى بكل المقاييس !

طبعا هذا سيعيد التذكير بضرورة إجراء تقييمات مفصلية في روح الكتابة التاريخية، ومحاولة تقديم بدائل عن إشكاليات تحري الرواية وتقصيد اللفظ التاريخي.

لا نتردد في أسبقية ابن خلدون وتقدمه الانتلجنسي في مسألة ثورته التاريخانية، فيما يخص تأسيس القواعد المنهجية لكتابة التاريخ في شكل علمي غير مسبوق قبل أن يحل القرن التاسع عشر الذي شهد ميلاد عدد من العلوم الإنسانية. ايف لاكوست تنبه إلى ذلك وأحاطه بعناية بالغة في كتابه الهام «ابن خلدون: ميلاد التاريخ، ماضي العالم الثالث»، منطلقا من إمكانية تأصيل علم عميق البيان قوي البنيان هو علم الميتودولوجبا الذي أطاح بنظرية صناعة التاريخ دون تسوير واصل لحرفة المؤرخ. ذلك أن الصناعة تحتاج لعقول مدبرة ووحدات ميدانية عالمة بقواعد الكتابة حكيمة بنظر الوفاء والعرفان.

لقد كانت دسائس التحريف التي أصابت قطائع كبيرة من تاريخنا أحد أهم الأسباب اصطراعا وتنافرا في تشكيل العقل العربي والإسلامي ، ولم نكن بعد قد وضعنا يدنا على مآلات تدحرجنا خارج الحفرة.

ولم بتبقى لنا غير الإذعان لسلطة الذاكرة كي تنعش بعض نذوبنا وأحلامنا، لأجل التردد بين الأمل والموت .

بعدها أدركنا كم نحن بحاجة لإعادة هدم ميكيافيلي، حتى نتمكن من إزاحة الشعور باليأس وعدم الثقة بالتاريخ. لقد صدق المفكر المصري أمين السعدني وهو يصف حالنا قائلا : (كيف نثق في التاريخ إذا كان الحاضر يتم تزويره أمام أعيننا !؟).