تحليل

الملك يرسم طريق المستقبل

خالد فتحي

أخضع الملك محمد السادس، بمبضع الرائد الذي لا يكذب أهله، الحالة المغربية للتشريح الدقيق كاشفا عن مختلف الأعطاب التي ما زالت تعوق السير نحو النماء والرفاه وواضعا في الآن نفسه الوصفات الناجعة الممكنة لها.

المناسبة تقتضي، فعلا، هذا الجرد الجريء البعيد مرة أخرى عن لغة إطراء الذات التي تمنع رؤية الجزء الفارغ من الكأس.

لقد مر الآن عقدان من الزمن من حكم محمد السادس تحققت فيهما الكثير من المكاسب والإنجازات، وتعذرت كذلك الكثير من الانتظارات الملحة والضرورية للعيش الكريم لكل الفئات ضمن هذا العصر الذي يتحول بسرعة في شتى المجالات.

في هذا الخطاب، نحت الملك من جديد مفهوم الملك المواطن والملكية الوطنية، أي الملك والملكية الملتحمان بالشعب كأساس للشرعية، المنغمسان في تحقيق مطالبه ومطامحه. كما شحذ الهمة الجماعية لأجل أن يشكل إحياء ذكرى عيد العرش لهذه السنة محطة إقلاع جديدة لمواصلة تنفيذ المشاريع والإصلاحات وتصويب الأخطاء التي تكشفت عنها التجربة.

نقاط الضوء الكثيرة التي عددها جلالة الملك اعتبرها غير مجدية إن لم يغمر نورها كل الفئات، لكنه يكرر من جديد دعوته للاستثمار في الإنسان المغربي الذي يعد الثروة الأولى التي ينبغي أن تفعلها الحكومة.

هناك ثورة كبرى ترشح من بين سطور الخطاب الملكي يهيئها ويدفع في اتجاهها عاهل البلاد؛ فالملك، الذي يتابع عن كثب مغربه ومل هذه التجاذبات والتطاحنات والملاسنات والتسخينات الانتخابية الشعبوية، يومئ للنخبة بضرورة التحرك وإخراج النموذج التنموي إلى الوجود.

إنه يدفعنا في الحقيقة إلى امتلاك رؤيا واضحة للمستقبل، ويقترح لهذه المهمة خيرة المنظرين والعباقرة من أبناء الوطن.

الملك يعي جيدا بأن الإستراتيجيات المحكمة تصنعها عقول المفكرين والفلاسفة الذين يتقنون التخطيط الشمولي، ولا تعوزهم النظرة الثاقبة للمستقبل، ويستشرفون الآتي، ويتكهنون بالتطورات المقبلة في العالم وفي شتى المجالات، ويعدون البلاد لها.

جلالة الملك يريد القطع مع مرحلة التنمية الهجينة، ويتطلع بنا إلى إحداث فرز واضح الخيارات تجعلنا بلدا مجمعا على الأهداف المرغوبة والمحددة... بلدا يعرف ماذا يريد، وإلى أين يتجه، ولا ينتكس أبدا إلى الوراء كلما تغيرت الذبذبات الانتخابية أو داهمته المفاجآت.

ولذلك حدد الملك للجنة النموذج التنموي التي سترى النور قريبا الخصال التي ينبغي أن تتحلى بها؛ كالتجرد والموضوعية والخيال الخلاق المبدع الذي يحدث القطائع المطلوبة ليس مع الماضي، ولكن مع الحلول السهلة والكلاسيكية والشعبوية لينطلق من الحقائق ويركب الصعب بكل الإقدام اللازم لكسب هكذا رهان .

ويدعو الملك إلى تجند الحكومة لمواكبة هذا المجهود بجيل جديد من الإصلاحات القطاعية؛ وهو بذلك يدع تدبير اليومي للسياسي، وتدبير المستقبل للمفكر، كأنما يستعيد النخب الكفؤة المبعدة إلى دائرة الفعل والإنجاز ليستفيد منها الوطن، فيؤكد بهذا التوجيه على دور الملكية الحيوي القائم على صهر المجتمع بكل فئاته، وعلى الانتباه لكل الطاقات التي يزخر بها.

من الواضح أيضا أن الملك محمدا السادس مصمم على أن يلحق المغرب بركب الدول المتقدمة؛ فقد آن الأوان لقطف ثمار الكثير من الخطوات الجريئة التي حفل بها عهده، وهو ما يحتاج إلى عاملين: عامل نفسي، يتجلى في الإيمان بالذات، وعامل سلوكي بجسده الانفتاح على العالم؛ فالمغربي قد كف أن يكون مغربيا فقط، هو أيضا مواطن عالمي. ولذلك لا داعي للخوف من الآخر، الذي يمكن أن يشكل فرصة لنا للإقلاع.

لا ينسى جلالة الملك أن يدعو ثالثا إلى المرور إلى السرعة القصوى في الإصلاح الاقتصادي والمؤسساتي، الذي يقتضي في الحقيقة ثورة ثقافية تغير العقليات. والتي يمكن أن نلخصها في ضرورة أن يكتسب القطاع العام أخلاق وخصال القطاع الخاص حتى لا يشعر المواطن بالفرق بينهما تأسيسا للمغرب المنسجم.

كثيرة هي الأفكار التي حفل بها خطاب العرش؛ كضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية ومحو الفوارق بين الطبقات حتى نتفادى الحقد والتطاحن بين فئات المواطنين، ووجوب انخراط المواطن في تحقيق مصلحته وكذا توفير التعبئة الجماعية التي تسمو على الفئوية.

يطلب الملك إذن من رئيس الحكومة أن يخلص الإدارة من أثقالها التي ترهن نجاعتها ويمده بنخبة جديدة لجيل جديد من المشاريع ... نخبة يتم انتقاؤها على أساس الاستحقاق، أي القطع مع العادات القديمة المترسخة في النفوس من خلال تغيير الكادر البشري الذي قضى مساره فيها بآخر له نفس يؤمن بالتجديد والابتكار.

مما لاشك فيه أن الزخم التفاؤلي للخطاب الملكي وطابعه العملي البرجماتي سيضخ روحا جديدة ويفتح أوراشا كبرى ما أحوج المواطن إليها في هذه الظروف التي أخذت تتشوش فيها الرؤية ويتسرب فيها اليأس إلى النفوس بفعل غياب الأفق البين.

إنه برسم الملك لهذا الأفق الجديد، يحث المواطنين على صنع غدهم بأيديهم وعقولهم ويذكرهم بضرورة الإيمان بعبقرية هذا الوطن، أي إنه يقدم لهم خلاصا يعبق بأريج الوطنية والمسؤولية والعطاء.