قضايا

رْجل على رجل

عبد الحكيم برنوص

يمارس أغلب الناس على بعضهم البعض تمييزا مقيتا، لا على أساس العرق أو اللسان أو اللون، إنما على أساس نوع العمل الذي منه يقتاتون. هذا يعمل "بعقله"، وذاك يشقى بيديه. أولئك تربت أيديهم وهم يغمسونها في السّخام والورطة، وهؤلاء أصحاب ملابس العمل الأنيقة والأيدي البضة الناعمة. والوجاهة من نصيب هؤلاء الذي يكادون لا يظهرون أيديهم وهم "يعملون".
نظر قاصر يحطّ من قدر الكادح الشغال، ويعلي من قيمة الأيدي المربوطة إلى جيوبها، تتفقد العاملين، لا تغادرها إلا لأمرٍ بالسبابة، أو توقيع سخيف بقلم ذهب رفيع.
فريق من الناس تنشد العمل، وليس أي عمل، العمل الذي ينبغي أن يفصل صاحبه عن الناس، فتعظم تطلعاتهم إلى مكتب ممرد من زجاج صقيل وخشب باذخ، وشاشة حاسوب منطفئة دائما، ولوح صغير بالخط الديواني (أليس الرجل في ديوانه؟) المطرز، يُخبر عن صاحبه، ودرجته العلمية التي تزرع الرعب في روع متيمِّميه.
كثير من الإدارات، بل جلها تقريبا، إنما قام ويقوم على أكتاف هؤلاء الذين نسميهم: "فنيين" و"تقنيين" و"عمالا" و"عسسا"... ولولا هؤلاء لما دار دولاب هذه المؤسسة ساعة واحدة.
هو وعينا الفطير، وارثا التقسيم القديم للعمل، عندما كان الناس "معادن" ذهب ونحاس وحديد، أيام كان فلاسفة أثينا يتفرغون للتأمل واستغوار الميتافيزيقا، يُعلمون الناس التفكير واستخدام العقل، وهم لا يعرفون كيف يجلبون عُسّ ماء من أقرب بئر.
كثير من الناس، متى تنفكّ من "ربقة" العمل اليدوي، ولمّا تُنشئ مشروعها الخاص، يسارع أصحابها إلى وضع "رِجلٍ فوق رِجل"، عن يمينه شاشة تلفاز وعن شماله صينية شاي لا تنقطع، يرشفها وأصحابه، وهم يتملون بجحافل الصبية والمتعلمين، يأتمرون بأمره، وينفذون ما يطلبه، ويده "بيضاء" يكاد لا يخرجها، إلا عند ضرورة الضرورات، يخاف اللطخ والوسخ، يهابها كأنها الجذام. ويُعين لنفسه عددا من النواب في حال الغياب المستمر، وإذا طال هذا الغياب، يطلبونه كما يطلبون "كبار المسؤولين".
فإذا تلطخت أيدينا أو ثيابنا بالوحل أو الدهن، فتلك لطخة عار، ووصمة نقيصة، نسارع إلى محوها والتبرؤ منها، قبل أن يعتقلنا الناس متلبسين بعمل اليد.
الهُزء من عمل اليد، والاستخفاف بالذين يكدحون، الذين لم تسعفهم عقولهم وظروفهم لنيل الشواهد والإجازات العليا لافت للانتباه في هذا المجتمع الحديث العهد بالتحديث، مجتمع يبني شخصيته الموزعة بين الأهواء والتجاذبات، حيث التمويه والتزييف بين القيمة ونقيضها، بين الحقيقي والمضلل، بين الجوهر والعرض.
حيث يلتحق كثير من "الكتاب" و"الكاتبات" و"التقنين" و"التقنيات"... بالعمل وهم في حداثة سنهم، وعلى كاهلهم تُقام مؤسسات بأكملها، لم تكن لتستمر لولا هؤلاء. ويحدث أن يُعين على رأس هؤلاء المساكين أناس، لم تمس أيديهم ترابا، ولا فكت برغيا، ولا رقنت حرفا، ولا ربطت سلكا، ولا شذبت فننا، ولا حفرت حفرة، ولا حملت معولا... يعين هؤلاء برواتب تكاد تعادل ما يتقاضاه هؤلاء المساكين مجتمعين، بحجة أن هؤلاء الناس يحملون شواهد وإجازات عليا، حصّلوها لأنفسهم بينما كان أولئك الكادحون يرقنون ويجرّون ويفكّون ويحفرون... فعلى قدر الشواهد تأتي الرواتب.
معادلة ظالمة شديدة الحيف، تنبئ عن مجتمع مبني على أساس استحقاق مغشوش ووجاهة فارغة خاوية، وكيل غير مستقيم، فلا يجوز عقلا أن تتغرّب وحيدا منفردا "تقرأ لنفسك"، لتأتي في المحصلة، وتحكم طائفة من العمال والكادحين، وتستأسد عليهم براتب سمين، بدعوى نقص تكوينهم وقصورهم العلمي؛ فالمشكل ليس في تحصيل الشواهد ولا في طلب العلم، وإنما في التقسيم العادل للأجور على أساس المجهود والعرق الناتج.
تحصيل العلم وحصد الشواهد أمر مرغوب، والواجب تكريم رواده وصون كرامتهم، لكن على أساس ما ينفع الناس، وما يجلبه لهم من خير ومنفعة؛ فإذا كان الأجر الكبير مقابلا للشهادة العليا، فالواجب يقتضي أن يكون الأجر المدفوع موازيا للجهد المبذول.
إن الأجر مقابل المردود والإنتاج والجهد أساس حفز الناس، والأمم المتقدمة المنتجة هي الأمم المنتجة بعقولها وأيديها، والأمران سيان. فمن المعيب أن نُزين مكاتبنا بالشواهد المزخرفة ذات الإطارات الذهبية ونضع "رجلا فوق رجل" بينما غيرنا يكدح ويعمل. تتخذ المسألة بعدا تراجيديا عندما يُنزلون "إطارا" في غير منزلته، إطار بنياشين وسيرة مهنية يحار أمامها المؤرخون، فيتنحى جانبا بدعوى عدم الاختصاص، وأنه جيئ به خطأ إلى المكان الخطأ، فيقع الأمر دائما على كاهل الذي يسمونه "عونا" أو "تقنيا".
من السخف في كثير من المهن (من غير تعيينها) أن تجد رؤساء مصالحها ذوي الشهادات العليا، التي تحتم عليهم العمل و"الخروج" إلى الميدان، إلى حقل العمل، مُعتمرين الخوذات الصفراء والصدريات البرتقالية، عوض ذلك يبقون مرابطين داخل مكاتبهم المكيفة، يصفون الأوراق ويوقّعونها. فيضيع على البلد وعلى أنفسهم خير كثير، وحجتنا على ذلك هذا التسابق حول مناصب المسؤولية والكراسي الدوارة والألقاب الرنانة من قبل أناس تمّ تكوينهم افتراضا ليباشروا الميادين وحقول العمل والأوراش.
الفصل الدراسي جبهة كبرى للكد، والحقل أرض الغرس، والأوراش ميدان التطبيق، وقاعات الفحص والعمليات والتطبيب مكان الإسعاف والتمريض... والشعوب العاملة الناصبة تشيد الصروح وتبني الشواهد.
في مدرج علمي شهير، يحمل اسم عالم عربي شهير، تعطل المِجهار (الميكروفون)، فانتفض الأستاذ المحاضر، ولعن الجهاز المعطوب، فاستدعى "العون" على عجل، الذي حضر حاملا مبراغه، ففك الجهاز فكا، وأعاد تركيبه بما يعيد السماع إلى الآذان الصائخة، والغريب هو أن المحاضرة كانت عن نظرية حديثة في الكهرباء والإلكترونيك.