تحليل

بين النظم والبلطجة ضاع المبدعون ما هو الشعر؟ ومن هو الشاعر؟

حسين فاعور الساعدي

نتفق جميعاً أن الشعر هو كلام غير عادي يقوله إنسان غير عادي. وإلا فإن جميع الناس يستطيعون أن يكونوا شعراء، كما يحدث في هذه الأيام.

في الآونة الأخيرة أجول في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية وأجهد نفسي في البحث عن قصيدة جيدة تروي الظمأ، فأضيع بين هذا السيل من القصائد التي يكتبها آلاف الشعراء في عالمنا العربي ومئات منهم هنا عندنا في الداخل. أدخل المكتبات بحثاً عن ديوان شعر جيد فأصاب بالصداع من كثرة الدواوين التي بمجرد تصفحها تزداد صداعاً. فهل هذا يعني أن الشعراء الموهوبين والمبدعين قد انقرضوا؟

ما يميز الشعر عن الكلام العادي هو أن الشعر كلام موزون ومقفى أو غير مقفى. ولكن هل كل كلام موزون ومقفى أو غير مقفى هو شعر؟

الكلام الموزون والمقفى او غير المقفى يكون شعراً عندما يصاب قارئه برعشة عند قراءته. رعشة تشبه الاورجزما في العملية الجنسية أو اللذة في عملية تناول الطعام الشهي أو النشوة في رؤية منظر خلاب أو امرأة فاتنة، أو الارتواء من كأس ماء باردة بعد ظمأ شديد. وإلا فهو منظوم وليس شعراً وكاتبه ناظم وليس شاعراً. معظم من يكتبون الشعر هذه الأيام هم ناظمون يجيدون الأوزان ويلتزمون القافية أو لا يلتزمونها لكنهم ليسوا شعراء ولا يمكن أن يكونوا شعراء. وهنالك مجموعة أخرى لا تقل عنهم عدداً لم يكلفوا أنفسهم عناء دراسة اللغة العربية ومتاعب الولوج إلى بحار الخليل بن أحمد، يكتبون ما يسمى بالشعر الحر ساترين عجزهم وسطحيتهم بالتستر وراء الغموض والإبهام وصف الكلام المزين بالضمة والكسرة معتمدين على مظاهرهم الخارجية (إذا كانوا إناثاً )، وعلى علاقاتهم العامة ووقاحتهم (إذا كانوا ذكوراً) وليس على ما يكتبون. بين هؤلاء البلطجيين وأولئك الناظمين ضاع الشعراء المبدعون. لماذا؟

قد يقول قائل: المبدع يشق الصفوف ويأخذ مكانه. هذا صحيح وغير صحيح في نفس الوقت. صحيح عندما يملك الإمكانات المادية والوسائل للوصول إلى القارئ. وغير صحيح لأننا في عصر السرعة ولا وقت للقارئ للتفتيش عن قصيدة جيدة أو ديوان جيد في هذا الزحام والطوفان من القصائد والدواوين الهابطة. تماماً كما ليس للإنسان العادي الوقت والصبر للتفتيش عن فاكهة سليمة في صندوق متعفن من الفاكهة. وهنا دور الناقد الجريء والموضوعي والمتجرد من نزواته وغرائزه في توجيه القارئ وإسداء النصيحة له. ولكن أين هو هذا الناقد؟ أضف إلى ذلك أن الموضوعية والنزاهة وحدها لا تكفي لأن الناقد أو المحلل الموضوعي والنزيه يحتاج إلى الذائقة أيضاً فالأدوات العلمية الأكاديمية وحدها لا تكفي.

الشاعر لا يكون شاعراً بمجرد أن يجيد أوزان الخليل بن أحمد ويتمكن من نظم الكلام حسب هذه الأوزان كما حدث مع الكثير من الأكاديميين دارسي اللغة العربية الذين ظنوا أن تمكنهم من اللغة العربية وإجادتهم لأوزان الخليل بن احمد يؤهلهم لأن يكونوا شعراء. لأن الشاعر هو الذي يمتلك الموهبة والسليقة وهذه لا تُكتسب. الموهبة أو السليقة تَخلق شيطان الشعر او ما يسميه البعض الوحي، أو الشاعرية. وهي حالة أو لحظة تفرض نفسها على الشاعر دون استئذان ودون مراعاة للزمان أو المكان. تصيبه في ساعات الصباح الباكر، وفي لحظات ما قبل الإغفاء، وفي المرحاض وفي أثناء السفر وعند رؤية الجمال بكل أشكاله. تأتي كالبرق أو كالومضة وقد تضيع لأبسط المنغصات. لا يمكن للشاعر استحضار هذه اللحظة وهي لا تخضع لرغبته وإرادته وإنما هي عصية متمردة تأتي متى تشاء وتفر متى تشاء وبسرعة إن لم يدخلها الشاعر ويعيشها بكل جوارحه وحواسه قاطعاً كل صلة له بالعالم المحيط به. سأسميها “الحالة الشعرية” أو “المخاض”. أجمل الشعر هو نتاج هذه اللحظة المتمردة التي تستحوذ على الشاعر وتسيطر عليه قاطعة كل صلة له بالعادي والروتيني. في هذه الحالة يكون الشاعر منقطعاً عن ذاته وعن العالم المحيط به، يكون غير عادي أو مجنون فتغيب اللغة العادية وتحضر لغة هي وليدة الحالة الشعرية تزول بزوالها وقد ينساها الشاعر إن لم يدونها. ينساها ولا يستطيع استحضارها ثانية، حتى في حالات شعرية مثيلة. تماماً كمياه النهر التي تمر ولا تعود.

“الحالة الشعرية” هي التي تتحكم بالشاعر فتشله وتسيطر عليه وهو لا يستطيع استحضارها متى شاء، أو التحكم بها أو تكريسها. لذلك فالشاعر الشاعر قد يكتب في اليوم أكثر من قصيدة وقد تمر الأيام والأشهر دون أن يستطيع كتابة كلمة واحدة. لأنه محكوم لشيطانه أو وحيه أو لحظته الشعرية.

ما نشاهده هذه الأيام من كتب تغمر الأسواق، وتملأ المكتبات، ويسمونها دواوين شعر ظلماً وعدواناً، ما هي بغالبيتها إلا محاولات بائسة لأناس يحاولون أن يفرضوا حالهم على الشعر. وما هي بمعظمها إلا كلام مصفوف ومُشكّل بالفتحة والضمة والكسرة والسكون… كلام أقل من عادي.

تشكيل الجمل الموضوعة بشكل عامودي والمطعمة بالنقاط المتتالية وبعض الكلمات الغريبة المستخرجة من القاموس أو من جوجل والتي لا يستسيغها الشعر لا تؤهل كاتبها أو كاتبتها أن يكون شاعراً حتى لو دبلج له حاملي أل د. مئات المقالات والتحاليل المطولة والمدعمة بالنظريات الأكاديمية. فليس كل أكاديمي حتى لو كان تخصصه هو اللغة العربية بمقدوره أن يتذوق الشعر ولديه الكفاءة لإصدار الأحكام. متذوق الشعر لا يشترط فيه أن يكون أكاديمياً يحمل شهادة الدكتوراة، فقد يكون هذا المتذوق فلاحاً أو عامل بناء لا يحمل أية شهادة. لكنه يحمل القدرة على التذوق وهذه غير مكتسبة كاللحظة الشعرية أو الوحي عند الشاعر. الذائقة الشعرية والشاعرية أو الوحي أو الحالة الشعرية هما الطرفان للتماس الكهربائي الذي يحدث بين الشاعر والقارئ، فيجعل القارئ يعيش الرعشة أو اللذة أو الأورجزما التي عاشها الشاعر لحظة الخلق.

ما يكتبه من يسمون أنفسهم شعراء أو شاعرات من كلام أقل من عادي لا وزن ولا قافية له وخال من اللحظة الشعرية، هو تخريب متعمد جعل الكثيرين من القراء يعزفون عن متابعة الشعر ويتوقفون عن قراءته. أما ما يكتبه الناظمون من أكاديميين وغير أكاديميين من شعر موزون ومقفى وشعر موزون غير مقفى فهو أشد خطورة على القارئ لأنه يصيبه بالخيبة والأخطر من ذلك يشوه ذائقته الشعرية. المصيبة أن هؤلاء الناظمون هم الأغلبية الساحقة ممن يكتبون الشعر عندنا وفي العالم العربي. وكثرتهم هذه وغزارة إنتاجهم جعلتهم يغطون أو يعتمون على المبدعين وهم قلة قليلة. لأنهم يغمرون السوق بإنتاجهم فهم لا يحتاجون للحظة الشعرية، أو المخاض، أو الوحي الذي يحتاجه المبدع وينتظر مجيئه طويلاً في كثير من الأحيان.

في الخلاصة أقول: الشعر هو الكلام الموزون والمقفى وغير المقفى، الذي ولد في ما نسميه اللحظة الشعرية أو هبوط الوحي أو المخاض يقوله الشاعر بصيغ مختلفة وأساليب من الصور والرسم والزركشة والغموض المحفز وليس المحبط. أما الشاعر فهو الإنسان غير العادي، المصاب ب “اللحظة الشعرية” أو “الشاعرية” أو “نوبة الوحي”. هذه الإصابة لها تأثيرها على شخصيته وسلوكه وتصرفاته. وربما أعود لذلك في مقال منفرد.