تحليل

العمل الإحساني وفقه الأولويات

بوسلهام عميمر*

ترى لو قمنا باستبيان بسيط نستطلع فيه آراء الناس حول حاجياتهم الأساسية التي تشغل حيزا كبيرا من انشغالاتهم اليومية، هل هي ما يتعلق بصحتهم، أم بتعليم أبنائهم، أم بمعيشتهم، أم بسكنهم، أم بأماكن عبادتهم؟ فهل يمكن تصور أن يشتكي أحد المستجوبين من قلة دور العبادة؟ ألم يحن الوقت بعد ليعيد المحسنون النظر في مركز اهتمامهم، ويوسعوا دائرته ليشمل وجوها أخرى من وجوه الخير، عدا بناء المساجد أو تزيينها وفرشها؟ فوفق منطق فقه الأولويات أو الموازنات لا بد من معرفة مراتب الأعمال قبل الإقدام عليها، دينية كانت أو

دنيوية، لِأَن لا نُقدّم ما ينبغي أن يُؤخر، ولأن لا نفرغ كامل جهدنا في فعل المهم بدل الأهم، أو المفضول بدل الفاضل والحسن بدل الأحسن.

هذه ليست دعوة للتوقف عن بناء المساجد أو الاستهانة بهذا العمل الجليل، فلا أحد يجحد دور المساجد وينكر أهميتها، بقدر ما هي دعوة للالتفات أيضا إلى أوجه أخرى لها علاقة بتدين الناس والقيام بشعائره. فهل يمكن مقارنة صلاة مواطن يتضور جوعا وعطشا، ويقطن بسكن غير لائق، ويعاني من العطالة، ومن انقطاع أطفاله وخاصة بناته عن متابعة دراستهم بسبب انعدام المؤسسات التعليمية أو بعدها عن مكان إقامته، أو مصاب بمرض عضال، أو لديه مريض يعاني ولا حيلة له بمجابهة علته، هل يمكن مقارنة عبادة هذا بعبادة آخر ليس في حياته ما ينغصها بواحدة من هذه المعضلات؟.

إذا قلبنا النظر في ما تتناقله وسائل الإعلام المرئية أو المكتوبة يوميا من احتجاجات وتهديد بمسيرات نحو العاصمة، فهل نجد من بينها من يخرج للمطالبة بتوفير أماكن العبادة؟ أم المطالب تتمحور أساسا حول الخصاص المهول في المجال الصحي، من بنايات ونقص في الأطر الطبية وانعدام التجهيزات اللازمة التي تسهل عملية التمريض والعلاج أو عطلها الدائم؟ ألا يمكن أن يكون هذا المجال، خاصة في ظل تغول القطاع الخاص الذي لا قبل للطبقات الشعبية بتكلفته المرتفعة، ضمن أولويات العمل الإحساني؟ فلم لا تتم توعية المحسنين بأهميته، من باب "وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا"؟ فأيهما أولى وأعظم أجرا، إحياء نفس كانت على حافة الهلاك بسبب الفاقة والعوز، أم صرف قرابة المليار في بناء المسجد الواحد؟.. أفلا تستحق الحوامل في الجبال مستوصفات القرب، بدل تركهن لحالهن أو حملهن في اللحود بسبب المسالك الوعرة؟ ويا ترى هل يكتب لها ولجنينها الحياة أم يقضيان نحبهما في الطريق؟ الصحابة رضوان الله عليهم كم حج الواحد منهم واعتمر؟ وكم بنوا من المساجد خلفوها وراءهم، أم إن اهتمام الأغنياء منهم كان منصبا على ما ينفع الناس، ويخفف عنهم من غلواء الحياة، وينقذ المستعبدين منهم من ربقة الرق والعبودية؟ فهذا ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه لما اشتكى المسلمون من الخصاص في الماء، ولم يكن يومئذ بالمدينة غير بئر لصاحبه أورمة، كان يسقيهم منه بمقابل باهظ، فاشتراها منه بثمن مغر، ووهبها للمسلمين. وهي إلى اليوم وقف، نمت حولها أنواع من النخيل تقع في حي من أرقى أحياء المدينة المنورة. كم من مسيرات العطش تخرج في ربوع المملكة، فلم لا يقتدي محسنونا ممن جاد الله عليهم بالرزق بالخليفة الراشد عثمان بالسعي إلى توفير قطرة ماء لهؤلاء المحتاجين؟ أيهما أولى أن يعبد الله على علم أم يعبد على جهل؟ فلم لا يتولى علماء الأمة عبر وسائل الإعلام و الخطب والمواعظ ترشيد اهتمامات المحسنين وتصحيح أفهامهم للعناية بكل ما يتعلق بالتعليم وخاصة في القرى النائية والمدن الهامشية والأحياء الشعبية؟ فلم لا يرصدون حاجيات المدارس ويتسابقون إلى توفيرها، وتلبية كل ما من شأنه أن يشجع الأطفال على الإقبال على التمدرس، وتذليل الصعوبات أمامهم لمتابعة دراستهم بتوفير النقل لهم، وتجهيز المؤسسات بالمختبرات، وتوفير الحواسيب وربطها بالشبكة العنكبوتية، وبناء المراسم وتشييد الملاعب، وتوفير كل مستلزمات أنواع الرياضات وكذلك الحدائق، والسهر على إنجاح الألعاب المدرسية، وتخصيص الفائزين بجوائز محفزة، وتنظيم المسابقات الفنية والثقافية والرياضية؟..فما أكثر أوجه الخير.. في انتظار أن تتحمل الحكومات المتعاقبة مسؤولية ضمان كرامة المواطنين، يمكن للمحسنين النهوض بأوضاع المحتاجين، كتمدرس الأيتام ورعايتهم، والعناية بذوي الاحتياجات الخاصة، وإقامة دور الطلبة والطالبات، وتوفير السكن اللائق للمعوزين والعناية بصحتهم، وتجهيز المستشفيات بأجهزة الفحص مجانا، والاهتمام بالأطفال المتخلى عنهم، بما أنه لا يد لهم في ما اقترفه آباؤهم.

*كاتب