تحليل

الكلمة نور والصمت ضياء

مصطفى غلمان

الكلمة التي ترفع الدرجات وتنشر جفلة الشجر بين العيون الرضية هي النافذة البارزة المستدرجة الجسور.

لا يؤمن بالكلمة من لا يغمر قلبه محبة الكلمة ونور اليقين وهناء الفكر والنقوة من حكمة الشعر.

كيف تشك بفعل الكلمة ورخائها بين الضلوع والمآقي وأنت ملسوع النية منفلت مكسور؟!

الكلمة التي تنشر رحمتها في الآثار والصحائف، بين الخفايا والرزايا والصدوغ المنهكة، قد لا تلد الجبال أو تنشد العظائم في الزمن الطوي الضامر.

هل يكون وقعها في بناء الأيقونة الفيتاغورسية "الفيلو" "سوفيا" مبشرا بالنداء الأبدي الذي يشع في الروح المؤمنة ويحصنها من انبجاس الماء واصطلاء نار القلق الكينوني.

لا تنكأ الكلمة قرح الجراحات إلا بفكر العقل وفطانة القلب، ولا تحبل ركائز الفعل الميداني دون سفارة الكلمة الحرة ووقعها وإيقاعها في الكون والوجود ومآلات الإنسان.

فعلام تنسحب المشاغل الداعرة المغدورة، وقد تسربل فشلها في الأنابيب الضيقة لرؤى تتوجس من حتف السقوط والاندثار؟

وكيف تبرأ الجهالات من عسر اللقاطة وزيف النظر؟!

لا بد أن للكلمة صدى وقطوف وستائر وجهاد يقتدر الطيب ويسلك الصلاح وينشد العطاء والإيثار.

ألم يحمل الفيلسوف اليوناني "ديوجين" مصباحا في واضحة النهار، حيث خرج ليبحث عن الحقيقة وسط السوق، وسط انشغال عامة الناس بحياتهم اليومية، مرددا "أنا أبحث عن الحقيقة".. "أنا أبحث عن الحقيقة"..

إنها الكلمة التي تجسد قلب الحقيقة، هذه الأخيرة التي لا تتمثل في تطابق الفكر مع الواقع فحسب، وإنما تطابق الإنسان مع الفكر، أي مع الخطاب المتماسك. خطاب يضمن للإنسان الاستمرار والبقاء والنضال بالكلمة ثباتا وقناعة وهوية.

كأن الكلام لا يحذو حذو الوصل، ولا يقطع دابر الخلاف. فمن كان على وجل فيلنقر قافيته بالحسم وتوجيه السهام وتقليب الفواجع. ومن كان فظا فليعاقر الوجع بالمحو والانكشاف على الواقع، فإن في ذلك رهبا وتسلحا بالموت والدمار.

وما من شيء من هذا العالم إلا ويحتاج إلى مناكفة ومحاججة؛ فالتحديات الكبرى، لا سيما تحدي اللحظة، بالإبداع والاختراع، الكائن الذي يناضل ضدّ نوم العالم وضدّ غفلته، هو نفسه الكائن المدرك لحجم الأخطار المحدقة والحتوف المنتظرة، يمنحنا غاستون باشلار في كتابه الفاخر: (أي شاعرية أحلام اليقظة؟) هذه اللحظة الشعلة المنزوية في مناطق الشعور المتوجس والمفتون بوحشة الغور وروح الترقب قائلا: "نحن نعيش في عالم نائم، علينا أن نوقظه بواسطة الحوار مع الآخرين. وما إيقاظ العالم إلاّ شجاعة الوجود بأن نوجد ونعمل ونبحث، نخترع، نبدع، نخلق".

الكلمة في نذرتها ميتافيزيقا منقولة على نجدة القادم؛ لكنها تقصر عن مداهنة الرؤى المتوجسة، الأسفار التي لا تنكتب تحت لفح الألم ولا تعبث بالأحلام اليقظة المتعنفة بفعل المخاوف وحقول الألغام.

الكلمة بمنظار آخر سليلة الرفض والاحتجاج والنقد العارف. والنفي من خلالها رفض للواقع كما هو. لا تبني العدمية إزاء الطبيعة؛ بل إنها صلب البناء وأساسه الكوني.

الكلمة بدء .. حدقة محرمة الأكل حتى من الكائنات النصية المحللة أكلها بعد القلق ، سؤال الشك والعتمة..

الكلمة صخر من نحيث الحروف المقمرة..

الكلمة مذهب إنساني راسخ الوجود، دينها العقل وسنامها السخاء ودربة الوقت، أما نظامها فتقديم للإيمان على العماء والصون على البلاء والاكتمال على التشرذم..

الكلمة وثبة يصالب بها راقص الثورة..

الكلمة سرداب يضيق كلما اتسعت العبارة وساحت فجواتها إلى الطرف المعاكس..

الكلمة قضية مصيرية تتناجى في الظلمات، ولا تجد محركا يبادلها السماء واللغة معجم المشاعر والأفكار والرموز والإشارات.