تحليل

لماذا يغش الذين يغشون؟

ابراهيم أقنسوس

حين تتحول الآفة الاجتماعية إلى ظاهرة، يتحتم علينا أن نفكر في الأسباب ونبحث عنها، فما هي الأسباب الثاوية خلف ظاهرة الغش التي استفحلت في ديارنا، الأسباب الظاهرة والباطنة، المعلنة والخفية؟ هذا دور المثقفين والمفكرين، والعلماء، وفضلاء الساسة، ومدبري الشأن العام، لماذا تحول الغش عندنا إلى ظاهرة؟ هذا هو السؤال الذي تجب الإجابة عنه بمسؤولية ووضوح ووطنية.

لم يعد مجديا أن نتحدث عن انتشار الغش وألوانه التي لا تنتهي، هذه حقيقة صارخة تواجهنا كل يوم، وأضحت من قبيل تحصيل الحاصل، وما الغش في الامتحانات الذي نتحدث عنه كل عام إلا صورة وحيدة من صور الغش الكثيرة والمتعددة، فلماذا يغش الذين يغشون؟ هذا هو السؤال الجوهري، لماذا يختار الكثير منا طريق الغش والتدليس والكذب لتحقيق المآرب والحاجات؟ لماذا أصبح الكثيرون منا يعتبرون الغش ضرورة لا مناص منها واقتناعا حتميا وسلوكا واجبا لا بديل عنه؟

الغش آفة اجتماعية لها أسبابها التي يتقاطع فيها الذاتي بالموضوعي، ويتداخل فيها الفردي بالمجتمعي، ولا علاج لهذا المرض العضال والداء الفتاك إلا بامتلاك الوعي بمدى خطورته أولا، وبجرد أسبابه كلها ثانيا، ثم بمباشرة معالجتها واحدا واحدا، بإرادة حقيقية وعزم وطني صادق ومسؤول ثالثا. وهذه بعض من تلك الأسباب:

أولا: التراجع الذي لحق منظومة القيم: يسهل أن نلاحظ ما أصاب جملة من قيمنا الفردية والجماعية من نقائص وتشوهات، وأخص بالذكر قيم النزاهة والصدق والاستحقاق والكفاءة، التي أصبح الحديث عنها مجرد فذلكة كلامية لا تثير حماسة الكثيرين، ما يعني أننا اخترنا أو تطبعنا مع مخرجات هي على النقيض تماما، مفادها التدليس، المناورة، الكذب، الارتشاء، تقديم الحظوة والجاه والمال، على الكفاءة والاستحقاق، والنتيجة إسداء الأمور إلى غير أهلها، ووضع الشخص غير المناسب، في المكان غير المناسب، والحياة بمنطق غريب قائم على الترضيات، والبحث عن المنافع الشخصية، والمصالح الفئوية والعائلية والقبلية والحزبية، بلا حس وطني ولا مسؤولية أخلاقية.

ثانيا: هيمنة الهاجس المادي، وسيطرة هوس الامتلاك والاستهلاك على العقول والنفوس، وسيادة منطق الربح المادي المباشر والسريع، بحيث يتحول كل شيء إلى سلعة تباع وتشترى، ويجري تقويمها ماديا، وماديا فقط، بدءا من أبسط الأمور والحاجيات، وانتهاء بالمقدرات الرمزية (الشواهد المدرسية والجامعية، المشاريع الفكرية، البحوث، أصوات الناخبين، أعراض الناس وسيرهم الشخصية...)، فكل شيء يصبح عرضة للبيع والشراء، وقيمته فيما يذره من عائد مادي مباشر، ولا شيء آخر، وطبعا لتحقيق هذا المطمح القاصر والمؤسف، تصبح كل الطرق سالكة ومقبولة اجتماعيا، ومنها وعلى رأسها طريق الغش الذي يجري التطبيع معه تدريجيا.

والملاحظ هنا أنه لا فرق بين الأغنياء والفقراء، الفقراء يغشون لتحصيل المكاسب وضمان الحاجيات، والأغنياء يغشون للمحافظة عليها ومراكمتها، ولكل منطقه الذي يدافع به ويبرر به فعلته.

ثالثا: غياب شروط التنافس الشريف بين المواطنين، وعدم التواضع على معايير واضحة ومحددة للفرص المتاحة وتوزيعها بشكل عادل ومتوازن يضع كل المواطنين على الخط نفسه أمام الفرص والإمكانات نفسها، لا فرق بين الأغنياء والفقراء، ولا بين المقربين والمبعدين، ولا بين المحظوظين والمهمشين، الجميع سواسية في الوطن، كما في المواطنة.

هل نريد حقا معالجة آفة الغش، بمعناها الشامل وبصورها كلها، علينا إذن مواجهة الأسباب الثاوية خلف الظاهرة، وهذه عينة منها، وإلا بقينا على حالنا نعيد الكلام نفسه ونجتره كل عام.