تحليل

نــقـــدنــــا .. خــارج التــطور الاجــتماعي التــاريخــي!؟

مصــطفى غَــلْمَـان

لا ينطوي النظر النقدي، خصوصا ما يرتبط بفكرة استيلاب الإنسان وتسليعه، على أي تأويل باتجاه ملامسة المنهج المادي الجدلي، أو أي جنوح آخر نحو تقييمنا لعلاقاتنا بالأشياء، نسقا ثقافيا يستوعب واقعنا الاستهلاكي المضطرب أو ما يسميه جون بودريار بـ"حيرة الواقع" بالتواطؤ مع الإعلام وترويج المغالطات اللاأخلاقية.

بل إننا نعني من ضمن ما نعنيه القيمة الرمزية للموضوع، بما هي وسيلة لنقل طبقات المعنى وأهمية استطلاع الأهداف المنتظرة، بغض النظر عن الفروق البنيوية الواضحة بين منطق المنفعة ومنطق السوق، ونصيب الاختلاف بينهما، فإن حدا قائما في التعاقد مع المجتمع وتهييئه للتواصل مع الحاجة لأجل تحقيق صفة للتجانس معادلة للسلوكيات، أسلوب حياة وقيم عيش، بما يشكل نظام علامات؛ ليست "فوق-واقع" وليست دونه.

هل حققنا حدا أدنى من هذا الوعي النوعي؟ وما درجات استحضاره في إبداعات مفكرينا وسياسيينا؟ ولماذا يكون النقد في مجتمعنا المريض شكلا من أشكال "التبرجز"، سائرا إلى ظلمة التبذير واغتصاب المال، حتى صار الاستهلاك المفرط مذمة سخيمة وأسطورة دامغة في سلوك الناس، إلى الدرجة التي يصبح فيها الاقتناء والاستحواذ لعبة في يد الأسواق وجشع الرأسمال المتوحش.

إن حجب هيمنة مصادر الرسالة الثقافية عن الناس، وتخفي الروح القتالية للأدوات المستعملة ضد قيم المعنى واحتدام الأيديولوجيات الإعلامية لأجل نهش واغتيال ما تبقى من منطق التعادل الذي يوازي القيمة، سيحيل البشرية في النهاية إلى مغسل للشر ومقبرة للمقايضة على المبدئية والتحرر القيمي، وهو ما يسميه المفكر الفرنسي كورناليس بتفتت المرجعيات والمنابع المنتجة للدلالة.

يظل الناقد في المجتمع رهانا لدحض نظريات الحجب والانغلاق والعنف الفكري. وعلى الرغم من تراجع عمله في نسقية البناء المعرفي وتنمية الإنسان، فإن بينهم القليل من الضمائر التي ما تزال تعاف الواقع المر والواقع الرديء، يكابدون المشاق ويحملون أثقال المسؤولية لأجل استعادة البادرة وتنظيم العلاج. إذ الحاجة إلى قوة تفكيرية ناعمة تجسد مستقبل وأحلام أمة رهينة بالشعور القوي نحو خلق باراديجم تنويوي نقدي جديد يستلهم فكره من التحليل العقلاني الشكوكي غير المتحيز، والحرص على تحويل قلاعه لمناطق التقييم الدقيق والتوافق غير المخل بمنظومات التواصل والقدرة على حل المشكلات المجتمعية الكبرى.

فالتفكير النقدي فكر ينبوعي تصحيحي يبني علاقاته من الداخل بمعايير الفحص والتقييم والتحليل الموضوعي، وقد وصف والترز هذه النظرة قائلا: "اختزال التفكير الجيد إلى التفكير المنطقي". النقد الذي لا يبلغ الحلقوم ولا يقطع نفس الحياة!

أما قبل، فهناك نقدة يقبضون على الريح ولا يثيرون فيها نزق التحول ومدار الانطلاق. يقتنصون الفواجع مثل كيسان النبيذ وهي تهشم أسنان الفحولة.

هم على مقام واحد ومقاس متفرد، يفجرون هوايات القرء على عدسة نظارات مجبولة على التكرار واجترار نفس خامات لغة التقليد والاتباع.

لا يريدون قلوبا جديدة ولا أحمال ظلال تنبت غيمات بعد خريف قائظ طويل.

يكفيهم أن يبتدعوا فروقات على الهامش وتمايزات في البدائل وإسقاطات العزل والهجران، ليقال إنهم ينعشون سياحة الشعر ويقبضون على جمر الوضاءة، ويستفردون بعبقر الخيال؛ مثل جن يسكن في جسد بلا دم، أو سراب يتخفى خلف صخرة سيسيفوس.

ما أقسى النقد برأس مثقوب!

وما أغرب الحديث عن نقد بلا حياء!