تحليل

المعطيات الخاصة أكبر من القانون

ابراهيم أقنسوس

إنها المعطيات الخاصة، اسمها يجليها ويدل عليها، إنها معلومات خاصة تهم صاحبها وصاحبها فقط، وليس لأحد الحق في الاطلاع عليها والبحث عنها وفيها، إلا لضرورة يوضحها القانون، ويدلل عليها بكلمات لا تقبل أي تأويل، ولا تترك أي هامش لأي توظيف سيء، فالأمر يتعلق بخصوصيات الناس وحيواتهم الذاتية، التي تعني صورتهم، وسمعتهم، ورصيدهم الرمزي في واقع الناس. نلاحظ أنه لا يكاد يمر يوم دون أن نسمع عما يسمى (فضيحة) لفلان، أو فلانة، ومحاكمنا تعج بالكثير من القضايا المسجلة تحت هذا الاسم (فضيحة). والمؤكد طبعا أن الكثير من هذه (الفضائح) إنما هي مصنوعات وبهلوانيات، تتم حياكتها وصناعتها صنعا، ولأغراض معلومة وغير معلومة، ما يعني أن المعطيات الخاصة للكثير من المواطنين والمواطنات تحولت إلى سلاح وتهديد يتم استعماله ضدهم، في حالات يعرفها ويحددها أصحاب هذا اللون من التوظيفات غير الشريفة.

ليست مشكلة المعطيات الخاصة في القوانين، فلدينا دستور ينص نصا على قرينة البراءة، ولدينا مراسيم قوانين تمنع نشر صور وهويات الأشخاص مقرونة باتهامات تمس أخلاقهم، إلا ما استثناه القانون بالنسبة للشخصيات العمومية ومدبري الشأن العام. كل هذا عندنا موجود، ولكن خرقه وتأويله المغرض أيضا موجود، ما يؤكد أن احترام المعطيات الخاصة يستلزم التوفر على عناصر أخرى، هي أكبر من القوانين التنظيمية وأعمق، هذه العناصر هي:

أولا: الإيمان بقيمة الإنسان المواطن، مطلق الإنسان المواطن، وضمان حقه في الوجود، وفي التفكير الحر، بطريقته التي يختارها، ووفق اقتناعاته التي يؤمن بها.

ثانيا: الإيمان بأهمية الاختلاف، الفكري والسياسي، بل وضرورته لبناء حياة ديمقراطية حقيقية، إذ لا معنى للحديث عن الاختيار الديمقراطي، مع الانتصار للرأي الواحد، والقراءة الوحيدة، والوجهة الواحدة؛ فقيمة المواطن من قيمة ما يؤمن به ويدافع عنه من آراء وأطاريح، يعبر بها ومن خلالها عن مدى ارتباطه وإيمانه ببلده. وكل بحث في الخصوصيات، وتلصص على الحميميات بغير ضابط قانوني واضح، إنما يخفي وراءه رغبة مؤسفة في إقصاء المخالفين، وإسكات الأصوات غير المرحب بها.

ثالثا: إرادة وضع تعابير قانونية واضحة ودقيقة، ومحددة لكيفيات التعامل والتعاطي مع المعلومات المتعلقة بالحياة الخاصة للمواطنين، كل المواطنين، وبلا استثناء، بدءا من البحث عن المعلومة، ثم ترويجها ونشرها، ثم تأويلها وبناء أحكام بصددها؛ فكل التباس في النظرإلى موضوع (المعطيات الخاصة) يعني مباشرة وجود التباس في المسمى (دولة الحق والقانون).

إن مشكلة المعطيات الخاصة لا تكمن أساسا في القوانين، وإن كان للقوانين اعتبارها، وإنما في المناخ العام، وفي الحيثيات والرؤى والغايات المصاحبة والمؤطرة لهذه القوانين؛ فكيف نفسر اليوم هذا الانشغال والهوس غير المفهوم، أحيانا كثيرة، بحيوات الناس وخصوصياتهم، حتى من لدن بعض المثقفين والمتتبعين، أو من يحملون هذا الاسم؟ هؤلاء الذين يختارون دائما مناقشة معارضيهم، والرد على من يخالفهم الرأي، بالحديث عن حياتهم الخاصة، واعتماد التشهير المجاني المؤسف، وبلا تمحيص ولا تبين في أغلب الأحيان.

مشهد غريب حقا، ومؤلم جدا، أن تتحول الحياة الخاصة للكثير من المواطنين والمواطنات إلى ساحة لتصفية الخلافات الفكرية والسياسية. بدل مناقشة الأفكار والبدائل، وبناء الوطن، يفضل الكثيرون أحاديث الغرف المظلمة وآخر الليل، والنتيجة ضياع المزيد من زمن الإصلاح في بلاد يحتاج إلى زمنه كله، وإلى مواطنيه جميعهم.