مجتمع وحوداث

العطور المزيفة وسرطان التعطّر؟

مصطفى قطبي

إن المتتبع لسوق العطور بالمغرب، يلاحظ دون عناء الرواج الذي يسري على هذه التجارة. فقد انتشرت تجارة العطور في كل مكان، في المقهى تعرض على الزبائن المآت من الأنواع التي يدّعي أصحابها أنها مستوردة من بلدان الجمال والإغراء... وفي الشارع يستوقف شباب بملابس أنيقة المارّة ويعرضون عليهم ما أنتجته دور العطور العالمية... وفي المنازل تعرض شابات في عمر الورد كتالوجات مختلفة من بلدان مشهود لها بالشهرة والباع الطويل في صناعة العطور... ولم يعد سرا أو خافياً على أحد أن الزجاجات العطرية ذات الماركات العالمية، إنما هي في حقيقة الأمر مجرد خليط من روائح مختلفة، والتزييف يتضح جلياً من أصل العطر والقنينة الأصلية...

ورغم تفنّن بعض المزيفين في تقليد الأصل، إلا أن خدعهم لا تنطلي على أغلب المشترين، وإن كان البعض يشتري من باب مساعدة البائع حتى لا ينحرف، وإلا كيف يعقل أن يشتري عاقل زجاجة عطر يفوق ثمنها 500 درهم بـ 20 درهم؟  

وقبل أن أمضي في كتابة هذا المقال، جمعت عدة علب وزجاجات لمنتجات تتباين في أشكالها، وتختلف في محتواها، واحدة لعطر ما، والثانية لمزيل للعرق، والثالثة لملطف ما بعد الحلاقة... وهذه المنتجات جميعها ذات أصل واحد، أمّا الفروق البائنة، فلم توجدها سوى حواسنا كتلك المسؤولة عن الرائحة مثل اللون أو اللّمس. وجميع هذه المنتجات عبارة عن مركبات كيميائية، تدخل في تصنيعها مواد كيميائية، ومعظمها مشتقة من البنزين، ومن أشهر هذه المركبات والمواد مادة (التولوين)، التي يعرفها الكيمائيون على أنّها من (قرائن البنزين)، حيث تتكون من مركب البنزين مضافاً إليه مجموعة المثيل ذات الرمز الكيميائيCH3.

أي أنّ العطور التي نتباهى بروائحها، ليست إلا كيماويات... كيماويات خطيرة... بل وقاتلة! كيف ذلك؟ ثمّة ما ينيف على خمسة آلاف مادة كيمائية تدخل في تركيب العطور، وقرابة 95 بالمائة من هذه المواد، عبارة عن مركبات بترولية، أي مجلوبة مباشرة من البترول، بعض هذه المواد سام، وبعضها مثبط للجهاز العصبي المركزي وللجهاز التنفسي.. والعديد منها يدخل ضمن نطاق المسرطنات، وهي تلك المواد التي تتسبب في حدوث أورام سرطانية خبيثة، حتّى أنّ وكالة حماية البيئة الأمريكية قد حذرت في تقريرها الصادر عام 1991 من أنّ هناك أكثر من عشر مواد كيمائية، تدخل في صناعة العطور وكلها مواد مسرطنة، ومن هذه المواد: الأسيتون، والأيثانول، وأسيتات البنزويل، وكلوريد الميثيلين... إضافة ـ بالطبع ـ إلى أكثرها شيوعاً، وهو مادة (التولوين)!

وما يحدث هو أنّ هذه المواد المتوحشة في العطور... عندما ننثرها على أرجاء أجسادنا، فلا تلبث أن تتسرب خلال طبقات الجلد، حتّى تصل لأوعية الدم ومجاريه الداخلية... فتبحر معه، لتستقر في النهاية في أعضاء مختلفة أتعسها الحظ ـ كالكبد ـ مثلاـ أو الكلي، مسببة لها أضرارا بالغة... وقد يزيد الطين بلة عندما تستقر هذه المواد المستوحشة في بعض المناطق الأكثر حساسية كالخلايا الدهنية والخلايا اللبنية ـ في ثدي المرأة، ومن ثمّ، تتسرب إلى الطفل الرضيع بوساطة حليب الرضاعة، مهيئة فرصة سانحة لأمراض فتاكة.

ثمّ إنّها قد تستقر في النهاية في المخ، محدثة صداعاً رهيباً مؤلماً... ناهيك عن أنّ الجلد نفسه يصاب بطفح ظاهري مؤلم، وتنتشر بعض الأمراض الجلدية المعروفة من جرّاء ذلك كالأكزيما وأمراض الحساسية. وفي دراسة دانمركية، وجد أنّ ما بين 1 إلى 2 بالمائة من السكان يعانون من مرض الاكزيما نتيجة إفراطهم في (تعطير) أبدانهم! 

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد فحسب، بل إنّ الاستخدام المفرط لهذه المواد، يحدث خللا في توزيع الهرمونات، وهي تلك المواد فائقة الحساسية، وبالغة الأهميّة لأعضاء الجسم، حيث تحدث نقصاً في نسبة هرمون الأستروجين والمسؤول عن النضوج الجنسي للفتيات... وهو بذلك يقلل من فرصة بلوغهن مبكراً، كما أنه يؤثر على الهرمونات الذكريّة، كهرمون التستوستيرون أو هرمون الخصيّة، وقد يحدث العقم، وهذا الخلل الحادث في نظام الهرمونات قد يؤدي إلى حدوث بعض أنواع السرطان، كسرطان الثدي أو البروستات والخصيّة! كل هذه المصائب تتخفى في تلك الزجاجة الطاهرة البريئة العطرة! حقاً!

هي إذن مشكلة خطيرة، يجب استيعابها وتوفير حلول أخرى تستحق صفة البراءة! حلول كتلك التي ينتهجها أحد مطاعم مدينة مارين بكاليفورنيا الأمريكية، حيث يحظر على المتعطرين دخول المطعم... وفي مدينة أمريكية أخرى... يحظر على موظفي إحدى الدواوين العامة التعامل مع أرباب العطور... وإذا كانوا لابد فاعلين، فمن خلف الزجاج المنيع! أمّا على المستوى الثاني... الحلول البديلة وفيرة سهلة... بل جد سهلة لأنّها تتمثل في العودة إلى الطبيعة الساحرة والزاخرة بالروائح الأجمل والأذكى والأفضل... والأكثر أمانا... وفوق ذلك، تستحق صفة البراءة بكل صدق.

فهل نعي ونفعل من تلقاء أنفسنا، أم نفعل إذعاناً لأوامر الطبيب الذي كتب ذات مرة لمريض الحساسية في وصفته الدوائية (ممنوع التعطر)!