رأي

احمد العناز: كم من المآسي ترتكب باسمك ايتها التقاليد

بعد تلك الرحلة الغريبة ليلا من المطار إلى مدينة فريتاون بواسطة المركب، ودخولي إلى غرفتي قبيل الفجر بقليل، لم يتسن لي النوم لتعرضي لقرصات بعض البعوضات اللواتي احتفلن بمقدمي برقصة دموية، ورغم أنني أخذت كل اللقاحات المتواجدة بمعهد باستور بالدار البيضاء، ضد الحمى الصفراء والتيفويد والمينانجيت، إلا أن بعوض هذه البلدان الاستوائية يحمل أنواعا أخرى من الفيروسات قد لا ينفع معها أي لقاح، ليس أقلها الإيبولا، فقررت أن أشن حملة لإبادة تلك الحشرات المزعجة، ولكن الغرفة واسعة، والبعوض يتقن الاختفاء في الأماكن الداكنة، فقضيت ما تبقى من الليل في اصطياد الساحرات.

وفي اليوم الموالي لم أجد أي من عظامي قادرة على التحرك، فقضيت اليوم أطل من الشرفة في جمود لساعات، لا أخرج إلا عندما يستدعونني للأكل.

وقبل الغروب قمت بجولة صغيرة في السيارة على كورنيش فريتاون في طريقي إلى السوبر ماركت لأشتري ما أحتاجه من لوازم شخصية، صحيح أن هذه الجولة غير كافية لأخذ فكرة عامة عن المدينة والناس، ولكنها كافية طبعا لتذكيري بأنني في قلب إفريقيا.

وتعني كلمة سيراليون قمة الأسد، وذلك للتشبيه بين صوت الرعد على قمم جبالها وزئير الأسود، وأول من أطلق عليها هذا الاسم هو الرحالة البرتغالي بيدرو سنترا، أما أهل البلاد فيطلقون عليها اختصارا اسم رومادونج أي الجبل.

وما أن جن الليل حتى بدأت الموسيقى تصدح بصو عال من الملهى الشاطئي المتواجد أمام غرفتي مباشرة، فعرفت أنه لا جدوى من أي محاولة للنوم، فلبست حذائي الرياضي الجديد وخرجت متبعا لفضولي الذي من المؤكد أن سيتسبب لي في مصيبة في يوم ما.

كم مرة ألوم نفسي على السفر بحذاء جديد، فقد يتسبب في مفاجئات مزعجة أحيانا.

ذهبت إلى ذلك الملهى المليء بالسيراليونيين وبعض الأوروبيين الذين يبدون متعودين على المكان، كنت قد زرته في النهار لمدة قصيرة عندما كان شبه فارغ، أما الآن فليست هناك مائدة فارغة، كلها مملوءة بالزبائن والزبونات الذين يشربون، فقمت بلفة شاملة على المكان وصولا إلى شاطئ البحر، وعدت بعدها للكازينو لأطلب قهوة تذهب عني الخدر، ثم حملتها لأجلس أمام بابه حيث يتواجد الحراس الشخصيون العمالقة الذين قدموا مع محروسيهم الأغنياء، وكذلك الرجال المسلحون ببنادق آلية الذين يعرفونني عندما كنت أنزل للمطعم رفقة رب عملهم، وكنت أحييهم.

لم تمر الجولة الصغيرة التي قمت بها في ذلك الملهى دون أن تثير اهتمام تلك الكائنات الليلية التي تبحث عن طالبي المتعة الأجانب، وبما أنني أصبحت في الجهة الأخرى من الطريق الفاصلة بين الملهى والكازينو، وكان ممنوعا عليهمن القدوم إلى هذه الجهة، فقد كانوا يشيرون لي بأيديهم وأصواتهم السكرى، وكنت أنظر لهن دون أن يبدو علي أي تفاعل.

سألني الحارس الشخصي الضخم الذي أتى بي من المطار ليلة الأمس إن كنت أريد أن أذهب إلى هناك، فقلت له بأنه كان بودي ذلك، ولكن قبل عشرين سنة، أما الآن فإنني سأكتفي بالنظر من بعيد، فقال لي لما تريد الذهاب إلى هناك خد معك حارس شخصي من هنا، فشكرته.

جلست بجانبه وبدأنا نتجاذب أطراف الحديث، وبفضل إنجليزيته الجيدة كان التواصل بننا سهلا.

كانت السيارات والطاكسيات تنزل تباعا  أمامي زبناء موسرين، وكذلك الباحثين والباحثات عن سهرة مجانية، وهؤلاء يأتون على الدراجات النارية، فقد اكتشفت ليلتها أنها تلعب دور الطاكسي، وتحمل شخصين إضافة للسائق.

اقترب مني شاب على عكازين، رجله مقطوعة حتى الفخد، كانت مهنته واضحة، وقدم لي نفسه على أساس أن كل الناس هنا يعرفونه بما فيهم البوص الكبير، وأمن الحارس الشخصي على كلامه، فأشرت له بالاقتراب مني.

- هاي أنا أحمد وأنت؟

- جوزيف ولكن الكل يناديني جو.

كنت متمرسا على كيفية معاملة الشحاذين، وأحسن طريقة هي أن تكلمهم كأصدقاء باحترام يفتقدونه، فيتوقفون عن الإلحاح وعرض عاهاتهم.

- طيب يا سيد جو أترغب في أن تشرب شيئا ما.

نظر إلي غير مصدق نفسه، وطلب قنينة جعة.

دخلت إلى بار الكازينو وطلبت اثنتين، وأعطيته واحدة، وبما أنني أعرف أنه يتحرق ليحكي لي قصة رجله المقطوعة فقد سألته:

-ماذا وقع لرجلك يا رجل؟

- أصبت في الحرب.

- اه، انت مسكين، قلبي معك.

فبدأ يحكي لي بإنجليزيته المفهومة:

- هذا البلد عانى لسنوات بسبب الكنز الذي يتوفر عليه، والذي كان يجب أن يكون - ويا للمفارقة - سببا في إسعاد مواطنيه … لكن للأسف بدلا من ذلك تحول إلى لعنة سببت من المآسي ما لا يعد ولا يحصى.

- كنز أقلت كنز!؟ وما هو هذا الكنز؟

- الماس.

تذكرت حينها فيلم «الماس الدموي» blood diamond من بطولة ليوناردو دي كابريو، الذي يحكي قصة عن  الماس في السيراليون، لقد رأيت نصف الفيلم، ولم أكمله لانشغالات خاصة على ان أعود لتكملته، ونسيت ذلك ولم أتذكره إلا تلك اللحظة.

وتذكرت كذلك أخبار هذا البلد في التسعينات، عندما تسببت الانقلابات المتوالية في ضعف السلطة المركزية، فنشطت حينها الجريمة المنظمة لتهريب الماس الخام، مما تسبب في حرب أهلية ضروس للسيطرة على مناجمه استمرت طوال ذلك العقد. 

وقد اشتهرت هذه الحرب بتجنيد الأطفال واعطائهم بنادق آلية وجعلت منهم مجرمي حرب، مما خلف فظائع …

- وكم لديك من الأطفال يا جو؟

- لدي طفلان توأمان، ولد وبنت، عمرهما الآن أربعة عشر سنة.

- ولكنك صغير السن فكيف لك أطفال مراهقون؟

- لم أرد أن يكون لدي أطفال، ولكن صديقتي حملت مني بدون أن نقصد ذلك، فقد كان عمري خمسة عشر سنة وعمرها أربعة عشر.

ولما علمت أمها بأمر حملها، طردتها من المنزل، فاضطرت إمي إلى إيوائها. ففي سيراليون تعيش النساء عادة مع عائلات أزواجهن. ورغم أنها كانت تقوم بأشغال الطبخ والتنظيف وغسل الثياب لكامل الأسرة، إلا أن أمي كانت تضربها بشدة كلما امتنعت عن القيام بالأعمال المنزلية بداعي الإرهاق الشديد، فكان من الضروري أن أجد لعائلتي الصغيرة بيتا مستقلا، والآن أسكن معها ومع طفلاي في مبنى غير مكتمل، وليست عندنا حتى النوافذ، نغلق مكانها فقط بالبلاستيك.

ومن نغمة كلامه أحسست أنه سوف يبدأ في لحن التشكي ذي النبرة العالمية، فدفعته إلى الحوار بعيدا عنها:

- وما خطب هؤلاء الفتيات يشرن إلي؟

- إنهن يرغبن في إقامة علاقة معك! ولكن خذ بالك منهن فيمكن بسهولة أن يورطنك في مشكلة وينادون الشرطة، ولا تخلص منهن إلا بدفع دولارات عديدة.

- آه طيب فهمت.

وفي الحقيقة أنا فاهم منذ البداية، ولكنني رغبت أن أجعله يعتقد أنه يعطيني أفكارا جديدة، حتى يستمر في الحكي ويبتعد عن نغمة الشحاذين.

وهو يثرثر بدون توقف، قدمت فتاة من الجهة الأخرى، قد تكون في العشرين، ولكنها تبدو أصغر من عمرها الحقيقي بسنوات. لها جسم صغير رشيق، وأظافر أقدامها ويديها مزينة بطلاء أحمر، وتربط وشاحا برتقالي اللون بإحكام حول شعرها.

وجهت السؤال لي:

- هل تتحدث الإنجليزية؟

- لا.

فوجهت كلامها لجو بلغتها المحلية، وبعد حوار قصير غادرت غاضبة، فسألته:

- ماذا قلت لها لتجعلها تغضب هكذا؟

- قلت لها أن زوجتك في الفندق.

- وبماذا أجابت.

- قالت ليس هناك أي مانع أن يضيفني إليها، فقلت لها إنك لا يرغب في ذلك فغضبت، فهي  تعتقد فقط بأنني أمنعها منك.

ورغم الماكياج البدائي الذي تضعه على وجهها الطفولي ورغبتها في بيع المتعة والسعادة لمن يطلبها، إلا أنها هي نفسها تفتقد لأي من أسباب السعادة والمتعة، فالنساء في هذا البلد يعشن حياة محاصرة بالأعراف الخانقة التي تعطي قيمة لجسمهن أكثر من عقلهن. فجل الطفلات  يخضعن للختان، بسبب عادة محلية بشعة يعتقد أنها تهيئهن لولوج عالم النساء، وتزيد من جاذبيتهن وقابليتهن للزواج، ولكنها في الحقيقة وسيلة للسيطرة على حياتهن الجنسية وكبح جماحها، مما يعطي أمهات مشوهات نفسيا وجسديا.

كم من المآسي ترتكب باسمك ايتها التقاليد