تحليل

التدين الشعبي بين الأصولية والخرافة

إيمان النمر

يعتقد البعض أن نمط التدين الشعبي هو أكثر تسامحاً وقبولاً للآخر في مواجهة التدين المتشدد. إلا أن هذا النمط مائع المضامين والمفهوم، ومرونته ونسبيته التي يعول عليها كثيراً ما تكون اعتباطية وعشوائية، وهي ذاتها ما جعلته يتشرب ويندمج مع الفكر المتشدد.
والتدين الشعبي يُقصد به هنا، التنافذ المتبادل بين الدين بطقوسه وعقائده مع الهياكل والأبنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع، الذي يمتثل إلى الدين كسلطة أولية ذات دلالة مقدسة وحاكمة لكل تمثلات وجوده.

بمعنى آخر، هو عبارة عن ممارسات توفيقية متولدة من عملية دمج بين الدين والتراكم التاريخي للعادات والأعراف الاجتماعية التي تحدد طبيعة الإنسان، والآخر، والصورة الكلية للعالم، ويدخل في إطاره الآداب العامة والتعاملات اليومية المتعينة في معيارية العيب والأصول، مروراً بالمعتقدات والمعارف؛ مثل الاعتقاد في الأرواح والقوى الخفية والجن، والتبرك بالأولياء والصوفيين والقديسين كوسطاء وشفعاء، وكذلك الاعتقاد بصحة الفأل والتطير بالأيام والأعداد، فضلاً عن طقوس الميلاد والعبور والظواهر الطبيعية ومواسم الزرع والحصاد..الخ.

وأغلبها خليط موروث من ديانات وثقافات حضارات الشرق الأدنى القديم التي تراكمت عبر التاريخ كمكون ثقافي شفهي للشعوب، عبّرت عنه من خلال الأمثال والأغاني والسير والحكايات والأساطير الشعبية، حتى انصهرت في إطار الدين الرسمي المعتنق على أساس القواسم المشتركة، وغالباً ما يكشف عن هذا النمط المتداخل الشرائح الاجتماعية الدنيا، والريفيون الذين لا يزالون مرتبطين بالعمل الزراعي، وغير المتعلمين الذين لم يلتحقوا بالتعليم النظامي، والعجائز من النساء.

لكن، هل هذا النمط أصبح واقعاً معيشاً بالفعل، أم بات ثقافات تاريخية منتهية ومجرد فلكلور؟ وهل توصيف "شعبي" دقيقاً؟ بمعنى هل يعبّر عن الجسد الاجتماعي العام وإن بدرجات متفاوتة، أم أنه يخص الشرائح الاجتماعية المهمشة والمستبعدة من الفقراء والشحاذين والدروايش الذين يُنظر إليهم بازدراء بوصفهم متخلفين وخرافيين وجهلاء ومبتدعين؟

في ضوء هذه الأسئلة وغيرها من المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، يعترض مفهوم التدين الشعبي عدد من الإشكاليات الجدالية المتطلبة إعادة النظر في صياغته ومعاييره، لأجل تمييزه عن أنماط أخرى، أو المجازفة بتنحيته تماماً. وباعتبارنا أن التدين الشعبي هو نوع من إنتاج التمثلات التفاعلية، فيعني أنه من إنتاج ذات اجتماعية فاعلة تتأثر وتؤثر وفق معطيات واقعها.

ولمّا كان المجتمع هو كلٌّ ديناميكي في حالة تشكُّل وتفكك مستمر، إذاً، ما كان بالأمس يصنف بالشعبي، يمكن أن يصير اليوم ثقافة تاريخية منتهية، وتراث ذاكرة جماعية في سبيلها إلى الاندثار، بفعل عوامل اقتصادية اجتماعية، تدفعها تغير أنماط وقوى الإنتاج والاستعداد التطبعي للفرد والجماعة.

ولنضرب مثلاً، بالريف، الذي لم يعد ريفاً متمايزاً بوضوح عن المدينة، إذ تعرضت بنيته لعمليات التحديث ثم الانفتاح على ثقافة الاستهلاك والسوق، وعليه تبدلت علاقة الريفي مع الطبيعة التي كانت تسمه بالطابع الإحيائي، ومن ثمّ، تغير وعيه بذاته وبالآخر، ولما ارتفعت نسبة الملتحقين بالتعليم النظامي وجهاز الدولة الإداري، إضافةً إلى ازدياد معدلات الهجرة إلى المدينة والخارج، تنوعت مصادر دخله الاقتصادي غير المرتبطة بالزراعة، واسُتبدلت المصادر المعرفية والثقافية التي كان يستقي منها الأفراد خبراتهم الحياتية وأحكامهم ونمط سلوكهم، إذ بات لديهم منافذ متعددة من الكتب ومنصات الإعلام التقليدي والرقمي المعولم، عدا التوسع في بناء المساجد وانتشار الدعاة، فضلاً عن تنامي النزعة الفردية، وعلاقة الفرد المباشرة بالنص التأسيسي "القرآن الكريم" وتفاسيره دون وسيط، وعلى أثره تخلخلت الجماعة العضوية ونواتها العائلة التي كانت تمد الفرد بمعتقداته وتصوراته الموروثة عن الأسلاف، وتربطه بالطقوس الجماعية.

وبفعل هذه المتغيرات المعقدة، تبدل المزاج الجمعي، وبات يرفض العديد من الممارسات والطقوس التي كانت تدخل ضمن مقدسه الديني، واتفق مع مزدريه الماضين سواء المثقفين العلمانيين أو جماعات الإصلاح الديني في ضرورة التخلص منها، بدعوى أنها غير عقلانية وليست من الدين الصحيح، وبعضها تحول إلى إرث فلكلوري ذي معيار جمالي محض، متجرد من قدسيته، أو بالتعبير العامي "موضة وبُطلت"، وهو ما يضعنا أمام مسألة الإدراك؛ بمعنى هل كل ممارسي الطقوس والأفكار الدينية المتوارثة والموسومة بالشعبية، يمارسونها وهم مدركين قدسيتها الدينية التاريخية أو مجرد عادة اجتماعية، ونحن الدارسين من يلبسها بالمعنى الديني الذي كانت عليه بالماضي؟

من واقع المعاينة الميدانية، يُلاحَظ أن العديد من الممارسات، تُمارس وتورث عفوياً، وأن البعض يتمسك بها على أنها مجرد عادة أو حتى دين، لكن يجهل بأسباب ما جعلها ديناً أو مقدساً؛ وهو ما يسّر عملية التخلي عنها ودحضها بوصفها موضة أو حراماً، وقد اندثرت بعض طقوس الميلاد والموت والزواج والزراعة في بعض المجتمعات، كذلك عادات رسم الوشم وتعليق الأحجبة والرموز السحرية وغيرها. وإذا كانت بعض الطقوس لا تزال في حالة استمرارية، مثل احتفالات الموالد الصوفية وزيارة الأولياء والتشفع بهم، فهل ما تزال هذه البنى قادرة على إعادة إنتاج تمثلاتها وتجديد رموزها؟ مثلاً، هل يوجد اليوم أولياء جدد وكرامات يُحكى عنها؟

المعاينة تجيب بالنفي، باستثناء بعض الكرامات التي يرددها المريدون والمنخرطون في الصوفية الطرقية سواء بدافع إيماني أو تسويقي. كما يُلاحظ أنّ معدلات الزيارات الموسمية واليومية لهذه الأماكن الدينية في انخفاض ملحوظ، وغير ذلك، فإنّ أغلب الجيل الحديث من زوارها، لا يمارسون العادات القديمة مثل طلب التشفع بالولي وتقبيل الضريح وتقديم النذر وغيرها، وإنما يتعاملون مع المكان كمسجد مثل كل المساجد، وإن تميز بعراقته التاريخية الجمالية، أو ارتبط بشخصية مقربة من آل البيت.

يبقى القول، وبما أنّ مفهوم التدين الشعبي ينطوي على تناقضات داخلية تيسر عملية تقويضه، لا سيما أنه موروثاً شفاهياً في مجمله، لا يمتلك نصاً ثابتاً أو مدوناً، ما جعله عُرضة لأن يكون ساحة نزاع وتراشقاً إيديولوجياً وموضوعاً استقطابياً بين البنى الاستغلالية للسلطة، وتيارات الإصلاح الديني والأصولي وجماعات المثقفين العلمانيين.

ينظر الخطاب الحداثي الثقافي إلى التدين الشعبي بانتقائية وتناقض، من أرضية الهُوية الوطنية القومية، ويتبني مفاهيم من نوعية "الحس السليم" لابن البلد الأصيل، سليل الحضارات القديمة في مواجهة الأصولية والبداوة، وغالباً ما تبني تصوراته على نوع من التدين والثقافة المتخيلة التي تعبر عن حنينه إلى ماضٍ جميل مفقود أو مجتمع عضوي ضائع من عصر ذهبي كان فيه متجانساً ومتفوقاً حضارياً، وعليه أن يستعيد مجده بالبحث عن القواسم الحضارية مع الحداثة التي تعيد بريقه.

وبذات آلية الصراع على قماشة التاريخ الفضفاضة، وعلى غرار البروتستانية المسيحية، اشتغل الخطاب الأصولي، وقد تبنّى هو الآخر توصيف "الفطرة السليمة"، مستدعياً أيضاً تصورات العصر الذهبي المجيد الذي تجب إعادة إنتاجه بتقويم سلوك المؤمنين، وتخليصهم مما علق بتدينهم من رواسب وثنية وبدع خرافية وثقافة تغريبية.

لكن، وفي حال التسليم بأنّ الناس ذوات فاعلة، وليسوا مجرد أدوات سلبية لأطراف صراع، سنلاحظ أنّ المتدين، الذي غالباً ما يصفه مستهدفوه "بالمؤمن أو المواطن البسيط"، قد تعاطى مع جميع تلك المدخلات والخطابات، ولم يرفضها أو يقبلها بالتمام، وإنما جارية عملية توليفها من جديد، وإن رجحت كفة الخطاب الأصولي؛ نظراً إلى تفوق آلياته وهيمنته التي استغلت ثغرات النقص المعرفي، وتمكنت من سد فراغاته وتطويقه، ولبّت الطاقة الروحانية والاحتياج الإيماني، على عكس الخطاب العلماني، فضلاً عن حركيته، وتوفيره المؤسسات البديلة التي عملت كروابط اجتماعية تنظيمية، وشبكات أمان وحماية ضد سياسات الإفقار والتهميش الاجتماعي.

من ثمّ، أصبح نمط التدين الشعبي، الراهن، بفعل التراكم والإدماج والتفاوض المستمر، هو عبارة عن هجين متناقض، يظل يوفق ويكيف بين ثقافات وممارسات وخطابات عدة، لا سيما في فترات التحول التاريخي إلى أن يستقر على محتوى وإطار ما مع استقرار المجتمع ذاته، وبما أن مجتمعاتنا في حالة خلخلة حالية، إذاً يصعب الجزم بتمايز نمط تديني ما عن آخر، بل الكل متداخل، ومفتوح على مستقبل يتعذر التنبؤ به.