تحليل

كولر الصحراء

عبداللطيف وهبي

"حتى أعظم حتان البحر ليس لديها أي قوة في الصحراء" كونفوشيوس

أعلن كولر استقالته من تدبير مفاوضات ملف الصحراء المغربية، كما سبق لغيره من الوسطاء أن استقالوا، فالصحراء ملف معقد وعنيد، تختلط فيه تموجات التاريخ وصمود الجغرافيا، وحتى المصالح تتقاطع بشكل لا يمكن معه إيجاد حل دون المرور على شفرة حادة.

لماذا إذن كولر أعلن استقالته؟ هل حقا الوضع الصحي هو السبب؟ وإذا كان ذلك، لماذا تأخر هذا القرار حتى يومه؟ أم أن كولر صاحب التربية الدينية، الحامل لمشاعر تجربة اللجوء وشهادة آلام الحرب، وعبأ المعاناة الحقيقية قبل الوصول إلى موقع رئيس دولة، قد فضل الاستقالة من ملف الصحراء بدل إعلان الفشل؟

إن رؤساء الدول لا يقبلون الفشل إلا بتطويع من خلال المرض أو أشياء أخرى، وكولر شخصية ذات مراس صعب، عانى من عدم وجود رؤية جريئة للأمم المتحدة في ملف الصحراء الذي ظل في دهاليزها يراوح مكانه، أو على الأقل رؤية واضحة للأمور، ثم عانى بسبب اختلاف مصالح وحسابات ومواقع الأطراف، وعانى كذلك بسبب تباين الرؤى بين السياسي المغرب والعسكري الجزائر.

فالجزائر مثلا لم تكن دولة إلا بعد الاستقلال، وحين حصلت على استقلالها، انتقلت السلطة بها إلى يد الجيش، وأصبح الجهاز الإداري كله وسيلة في يد نظام عسكري، في حين النظام السياسي في المغرب فهو مختلف، بني على ملكية منفتحة، حيث كان الحسن الثاني في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي يصنع في المغرب دولة حديثة بمؤسساتها وأجهزتها، بدءا بالعهد الملكي، إلى دستور 1962 ودستور 1970، وصولا إلى خلق الأجهزة وبناء المؤسسات الدستورية، السياسية والمدنية والثقافية كما العسكرية، قد تكون على مقاسه ولكن في آخر الأمر هي مؤسسات دولة، قبل بالصراع في مجال السياسة، حين رحب بالمعارضة كقوة سياسية، تارة يقمعها وتارة يغض الطرف عنها، بينما كان الجيش في الجزائر يقبض بقوة النار على كل مفاصل السلطة، وإلى يومنا هذا مازال الخلاف مع الجيش، لذلك من الصعب أن ينجح الحوار بين دولة مدنية سياسية في المغرب لها جيشها، وبين جهاز عسكري في الجزائر له دولته.

ويبدو أن كولر أصبح مدركا لهذه الصعوبات، بل فهم جيدا أن لموريتانيا وجبهة البوليساريو دور محدود في هذا الحوار الغير المتكافئ، لذلك كان عليه أن يخرج المفاوضات من المجال الرباعي "المغرب، الجزائر، موريتانيا والبوليساريو" إلى المجال الثنائي المباشر "المغرب والجزائر" وليبحث آنذاك على لغة الحوار بين المدنيين في المغرب والعسكريين في الجزائر.

لنكون صريحين وواضحين، ونقول أن الجزائر التي تختفي وراء جبهة البوليساريو، هي الطرف الحقيقي في مواجهة المغرب، فهي تتعامل مع قضية الصحراء بعقلية عسكرية لخدمة أهداف جيواستراتيجية مرتبطة بتصفية حسابات تاريخية أو امتدادات جغرافية للمحيط الأطلسي، وأما موريتانيا فقد ظلت تسبح بين المواقف والمواقع والمفاوضات التي لا تعنيها.

أما المغرب فظل يتعامل مع قضية الصحراء كموضوع وطني، وقضية إجماع وامتداد طبيعي في التاريخ والجغرافيا والإنسانية، ويتعامل معها كمدخل رئيسي لبناء المغرب العربي اقتصاديا وأمنيا ومؤسساتيا، بينما الجزائر تجد في ملف الصحراء وسيلة لتلبية رغبة الهيمنة، وللحد من قوة المغرب جغرافيا، وتطويقه شرقا وجنوبا على شاكلة البرتغال، والحد من دوره في المغرب العربي، بل تحجيمه دوليا ودبلوماسيا بقوة البترول والدولار.

لذلك، وجد كولر نفسه أمام هذا الخليط الذي لا يمكن معالجته باتفاق فريد، لكون الدبلوماسي والسياسي عموما يرى في الاتفاقات والتنازلات عملية سياسية طبيعية، بينما العسكري فيرى في التوافقات انهزامات عسكرية حتى ولو تمت بشكل سلمي، لاشتغاله بمنطق إما الاستسلام أو الانتصار، عكس منطق المغرب "عطاء وأخذ"، وهذين المنطقين مختلفين، لذلك وضع كولر أمام سؤال حارق، إذ كيف له وهو السياسي المعتز بألمانيته، الذي تربى في أحضان الكنيسة، المنتمي لدولة تمنحها قوتها الاقتصادية نوعا من الثقافة السياسية المستقلة، أن يتعامل مع كل هذا الخليط؟

في الحقيقة، لقد اشتبكت أمامه الخيوط، تارة تجد منطلقاتها في أمريكا، قبل أن تنتهي في فرنسا، وتارة أخرى تتحول من جنوب إفريقيا لتجد نهايتها في العالم العربي وأخيرا في الخليج، وكل ذلك جعل كولر يشعر بأنه يضيع الكثير من الوقت والجهد، وفي آخر المطاف سيجد أن كل ما فعله هو المزيد من تعقيد هذا الملف.

لذلك تجد أن كل الوسطاء الأمميين ضيعوا الكثير من الوقت فقط ليستوعبوا الخلاف، وحينما يكتشفون أنه خلاف وهمي، يستقيلون، لذلك مهما استهلكت قضية الصحراء من وقت، ومن وسطاء سابقين، وآخرين لا حقين، فستظل قضية وهمية، عصية الفهم على الآخر، أما بالنسبة للمغرب، فهو على الأرض، يملك التاريخ ويسير فوق الجغرافيا بخطى ثابتة، على عكس من يقطن في تفاصيل خطط سياسية لكن بعقلية عسكرية.