رأي

عبد الرحيم الفارسي: حين بكت تيريزا

إبتهج الكثير من المراقبين لسماع تيريزا ماي تعلن استسلامها للضغط الشديد الذي مورس عيلها للرحيل عن 10 داونينغ ستريت. وللأسف تلذذ الكثير من الناقمين عليها وهم يسمعون الكلمات تختنق في حلقها لحظة انهاء خطبة الوداع، مرتدية على غير عادتها، فستانا أحمر ينم عن الدماء الغاضبة التي تجري في شرايينها.

لم تكن تيريزا ماي وراء استفتاء البريكسيت أو نتائجه. فقد سلمها ديفيد كامرون عجلة القيادة وهي حامية تحرق من يمسها.

كان من صوتوا في ذلك اليوم الحار من أواخر يونيو 2016 لا يدركون خطورة الورقة التي دسوها في الصناديق. لم يكونوا يعرفون أن قوانين بلادهم اختلطت وتشابكت مع قوانين اتحاد يضم 28 دولة خلال فترة تجاوزت أربعة عقود. ولم يكونوا يدرون أن مصير الملايين من الاوروبيين المقيمين في بريطانيا، وأعداد مماثلة لهم من البريطانيين المقيمين في بلدان الاتحاد الاوروبي قد أصبحت في خطر.

(داني) مصلح أنابيب الماء والتدفئة في بيتي بلندن، الذي صوت للخروج من الاتحاد الاوروبي فقط لأن رومانيين وبولنديين عاطلين عن العمل بدأوا يزعجونه ويضايقونه في الحي، لم يكن يعلم أن ذلك القرار من شأنه أن يعيد التوتر إلى موطنه الأصلي، أيرلندا الشمالية.

إن الخطاب المتشدد أو الشعبوي يكون سهلا حين نخطه على الورق أو نرقنه على الشاشات، لكنه يكون جاهلا بالشيطان الذي يختبيء في التفاصيل لما ننتقل إلى ساعة الجد.

في هذا السياق المتشابك دخلت تيريزا ماي البيت الشهير في داونينغ ستريت، وهو بالمناسبة مبنى كئيب يمكن أن تجد نظيره المخصص لرئيس الوزراء بأكثر البلدان فقرا وتخلفا، في حال أفضل منه بكثير. لكن الناس في بريطانيا يتزاحمون لنيل شرف خدمة الصالح العام.

لقد وجدت تيريزا ماي نفسها أمام واحد من أخطر التحديات الوجودية للمجتمعات، ألا وهو الاستفتاء. هذه العملية التقنية الجافة الفظة لا مجال فيها للحلول الوسطى: فالخاسر حتى ولو كان على حق يخسر كل شيء، والرابح حتى وإن كان كاذبا أفّاقا وطرحُه يقود نحو الهاوية، فإنه يربح كل شيء. والنتيجة غير قابلة للمراجعة في غضون سنين، ولا يمكن محاسبة المسؤولين عنها.

انقسم المجتمع البريطاني فورا. لكن تيريزا ماي آمنت بهيبة دولة المؤسسات، وهيية كلمة الشعب، فقررت المضي نحو الخروج من الاتحاد الاوروبي. أطلقت هذه العملية معتمدة شعار: قررنا الخروج من الاتحاد الاوروبي، وكذلك نحن فاعلون Brexit means Brexit .

تابعتُ تحركات السيدة تيريزا ماي منذ بداية عهدها برئاسة الوزراء. كانت تبدو مصرة على أن تطبع تاريخ بريطانيا المعاصر بميسمها، لتكون نسخة أخرى من المرأة الحديدية مارغريت ثاتشر.

لكن هيهات. فلا نحن في حقبة الحرب الباردة التي أنجبت ثاتشر، ولا المجتمع البريطاني يتحمل طغيان شخصية رئيس وزراء بعد سنوات الإرباك الذي زرعه توني بلير، ولا المعلومة يمكن التحكم فيها كما كان في زمن ثاتشر.

تعرضت تيريزا ماي لإهانات لفظية في مجلس العموم، وفي الشارع، وفي الصحف، وفي العشرات من اجتماعات الاتحاد الاوروبي التي واكبتُها بالتغطية ببروكسل.

تحدَّت الخوف حين أخرجت من مبنى البرلمان على عجل لما قام منفذ عملية جسر وستمنستر بدهس الراجلين وطعن رجل أمن مام يحرس باب البرلمان عام 2017.

كان مكتبها سيتعرض لهجوم إرهابي في اعياد الميلاد أواخر عام 2017 لولا أن أجهزة الأمن كانت متيقظة وأحبطت العملية قبل انتقال اصحابها الى مرحلة التنفيذ.

حاولتْ تيريزا ماي في البداية أن تخرج من الاتحاد دون العودة إلى البرلمان، ففشلت بعد معركة قانونية طاحنة. ثم لجأت إلى صناديق الاقتراع في انتخابات مبكرة فخسرت أغلبية ساحقة كانت تتمتع بها في مجلس العموم.

ناورت وتظاهرت بتعديل صياغة صفقتها مع الاتحاد الأوروبي لعلها تخطف أهواء المعادين لأوروبا في حزب العمال المعارض، فانتكست. عادت الى الاتحاد الاوروبي متوسلة اعادة النظر في الصفقة فقوبلت بالإباء والاستخفاف، بل وحتى التبرم.

كنت أعرف أن نهايتها دقت بعدما رصدتُ ردود الفعل على صفقتها بعد 25 نوفمبر الماضي. لكنني كنت طوال هذه المدة أكبِر فيها صبرها وقدرتها على تحمل طعنات ذوي القربى الحزبية، وسخرية المعارضة، ومؤامرات الطامحين إلى خلافتها، وانسحاب الوزراء الذين أبوا أن يسجل التاريخ أنهم وقفوا بجانبها في خطة لم يكونوا مقتنعين بصوابها.

لقد ضاع على تيريزا ماي لقب مخرجة البلاد من شباك الاتحاد الأوروبي، وضاعت عليها فرصة رص بنيان حزب المحافظين الذي تنهشه معارك داخلية حولته إلى ما يشبه فصلا دراسيا مليئا بالمشاغبين،. إنها تغادر وقد تركت برلمانا منقسما بين رافض للبقاء مع الاوروبيين وآخرين يعضون على القارة العجوز بالنواجذ.

تمضي تيريزا ماي الى حال سبيلها والمجتمع في بلدها على عتبات عهد جديد تنهار فيه أسس مجتمع الثورة الصناعية التي انطلقت من بريطانيا قبل حوالي قرنين، ليدخل عهدا أقل ثباتا وابطاله هم الصينيون والأمريكيون الذين قد يقودون العالم نحو كارثة تفوق في عظمتها كارثة عام 1929.

على الصعيد الشخصي ستبقى تيريزا ماي ومكتبها أكثر رؤساء وزراء بريطانيا تعاونا مع الإعلاميين الأجانب. لن أنسى الدعوات لحضور المؤتمرات الصحفية واللقاءات السياسية دون تمييز كما كان الأمر مع سابقيها. لن أنكر أن إدارتها لم تستثني من البيانات والخطب التي تصلني على بريدي الالكتروني المهني في اللحظة يتوصل بها زملائي العاملون مع وسائل الإعلام البريطانية الصرفة.

كنت دائما مقتنعا بأن بريطانيا التي أحمل جنسيتها وأتجول في غالبية البلدان بجواز سفرها، لن تجد أفقا أأمن من الأفق الأوروبي، وبهذا أختلف مع مسار تيريزا ماي.

لكن ستظل هذه السيدة مضرب المثل في الصبر والترفع عن الصغائر  وحضور البديهة والفصل بين ما هو شخصي وما هو مبدئي حين نتحمل مسؤوليات عمومية.

أتمنى لك بقية عمر هنيئة من زوجك، رجل الظل الذي بقي صامتا على الدوام لا يحدث رِكزا.