فن وإعلام

غروب طيب تيزيني: المفكر المقتحم، والمجادل و المثير للجدل

حميد تباتو

يغرب الكبير طيب تيزيني اليوم ليلتحق بكبار الراحلين الذين غيروا وعي جيل ، ووفروا ما سمح للمنتسبين له معرفة نظرية صلبة، وأسسا منهجية تسمح بكشف حقيقة تجار التراث ومزيفي التاريخ الذين وجدوا فيهما ما يسمح لهم بتكريس مغالطاتهم، وتبرير إيديولوجيتهم التي تفتح بابا نحو الجاهلية، والتقوقع، وما هو بائد بالتوظيف النفعي للتراث الخاص. يرحل “المفكر المقتحم، والمجادل، والمثير للجدل” كما وصفه صديقه الراحل محمد دكروب حين قدم له كتابه “في السجال الفكري الراهن”، ليلتحق بموكب الكبار الذين، سبقوه إلى الموت، والذين تعلمنا منهم فكريا ومنهجيا ما لم يكن بإمكان كل مقررات المدارس أن تعلمنا إياه أمثال حسين مروة، ومهدي عامل، و محمد أركون، ومحمد عابد الجابري، وصادق جلال العظم، ونصر حامد أبو زيد، وجورج طرابيشي… يرحل تيزيني تاركا إرثا معرفيا أصيلا نفرح لأننا اطلعنا عليه، ووفرناه من فقرنا و احتياجنا كنزا غاليا في مكتباتنا، نعود إليه كلما ارتبك أفق تفكيرنا، أو تواجهنا مع دعاة حياد المعرفة و الفكر وتجارهما.
لقد أفهمنا الراحل ومنذ الجزء الأول من مشروعه الفكري قيمة قراءة التراث وفق ضوابط تخدم التراث و الوجود الخاص، يحصرها في ما أسماه ب”منهجية تراثية ناجعة علميا، وذات أفق اجتماعي إنساني تقدمي في الحدود القصوى في العصر الراهن”، مع استحضار شرط آخر ضروري يبني علمية المنهج هو ” أن تأخذ هذه المنهجية بعين الاعتبار العميق تلك الحركية الذاتية الداخلية لذلك التراث في سياقها التراثي الحقيقي”، إبعادا لأي فهم نفعي للتراث، و لما يسميه ب” التعسف، والقسر، والتطويع الميكانيكي” للتراث، وخدمة للمعنى الموضوعي للحقيقية ، التي تكون “حقيقة في البحث التراثي، كما في البحث العلمي …ليس لأنها نافعة، وإنما ، هي على العكس من ذلك، نافعة، لأنها حقيقية”.
احتكمت قراءة طيب تيزيني الرائدة للتراث كما مشروع رفيقه المفكر حسين مروة ، إلى الرؤية الماركسية والمنهجية المادية التاريخية أساسا، بغاية دحض التصورات غير العلمية للتراث، وطرح المسألة التراثية باعتبارها إشكالية يجب فك ارتباطها بالجهات التي تؤممها باسمها ، أي “السلفيون، ومفكرو البرجوازية، الذين أرادوا إبقاءه لصيقا بهم، وبعيدا عن إمكانية النظر العلمي فيه”.
عزاؤنا في غروب الكبير طيب تيزيني هو التراكم البهي و الهام الذي تركه، و الذي منه أجزاء مشروعه الفكري خاصة ” من التراث إلى الثورة –نحو نظرية مقترحة في التراث العربي”،و”مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط”،و”ومقدمات أولية في الإسلام المحمدي الباكر”، و” الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى”…ثم كتاباته السجالية التي منها ” علي طريق الوضوح المنهجي-كتابات في الفلسفة والفكر العربي”،و “في السجال الفكري الراهن”…حول بعض قضايا التراث العربي –منهجا و تطبيقا”إلخ. لقد فكك تيزيني في مشروعه الفكري البنية الإيديولوجية المهيمنة، من مدخل قراءة التراث، وسعى إلى نقض المواقف التي تعبر عنها سواء تعلق الأمر بالسلفية الممجدة للعودة إلى الماضي العريق…وتطويع الحاضر ليخضع له، أو المعاصرة بصيغتها العدمية المنبهرة بما يسميه “شطآن الغرب”، أو التلفيقية المعكوسة من خلال “موقف القلق المهزوز الذي يدافع عن اختيار انتقائي ليؤكد لا تماسكه،وهجنته التلفيقية، أوالنزعة التحييدية المحتكمة لمنظور الحياد، والتعالي الأكاديمي البئيس الرافض ل” الالتزام الاجتماعي و التاريخي، و السياسي، والعلمي التاريخي و التراثي” ، ليقطع بذلك الفكر و المعرفة عن ما يسميه المفكر تيزيني “تيار الحياة الاجتماعية الدافق” الذي يعطي لأي فكر معانيه الموضوعية .
استحضار كبير بحجم تيزيني ، ومشروع هائل بقيمة ما راكمه الراحل بصيغة مقال صغير مغامرة قد تكون من دون معنى، لكن ما يشرعن الاقتناع الخاص بها هو الحق الخاص لعاشق فكر تيزيني في أن يقول له وداعا وشكرا بالصيغة التي تناسب رفعة هذا العشق، وهي استحضار بعض مقولاته التي رسخناها في أعماقنا تقديرا لمعلم كبير من زماننا يرحل اليوم ليضاعف من اليتم الذي يغربنا أكثر كلما رحل أحد الكبار من أمثال الدكتور طيب تيزيني.