تحليل

بين الفرنكوفونية والفرنسية: مساحات التجاذب، وحدود التنافي

محمد بودويك

الفرنكوفونية، كما يعرف أهل الثقافة والرأي، هي اللغة والثقافة الفرنسية مُؤَدْلَجَةً، ومرتدية لباس الميدان. ولا يهم، بعد هذا، إنْ كان الميدانُ ميدانَ حرب بالمعنى الناعم أو بالمعنى الفعلي، ما يفيد البحث المضني والاستراتيجي لفرنسا لحيازة مربعات ومستطيلات جغرافية من خلال الإبقاء على جذوة الثقافة الفرنسية مشتعلة في المستعمرات القديمة في أقل تقدير. وليس من شك في أن ظهور الفرنكوفونية ولصوقها بالأدب تحديدا في الرقعة المغاربية (المغرب- الجزائر- تونس)، إنما جاء كرد فعل بإزاء الزحف والهيمنة اللسانية والثقافية بحمولتها الأنتربولوجية، وتطبيقاتها التكنولوجية للعالم الأمريكي والأنجلوساكسوني- أو الهيمنة- باختصار- الأنجلو-امريكية.

إذ لا يخفى أن العولمة تخدم – في البدء والختام- وعلى مساحات جغرافية وسيعة وعريضة ومدوخة، اللغةَ الإنجليزيةَ بوصفها حامل الثقافة، والمنجز المعرفي والفكري، والفتح العلمي والتكنولوجي الكاسح. من هنا، يسهل فهم مقولة الكاتب الفرنسي الكبير وزير الثقافة الدوغولي أندري مالرو: ( إن الفرنكفونية فتح مستمر). وهذا الفتح المستمر ما هو إلا الانتقال، والترحل، والحضور والاختراق لمستويات قطاعية، وعناصر بشرية إفريقية وأسيوية، وعربية، وكندية، من أجل إثبات التاريخ الثقافي لفرنسا، وترسيخ البعد الحضاري، واستعادة الماضي الأنواري لبلاد روسو وفولتير ومونتيسكيو وغيرهم.

وقد وجدت "الفرنكوفونية" في بلدان المغرب الكبير، وبلدان افريقية، من رَفَع لواءها عاليا، وكرس لسانها بما حقق لها الذيوع والانتشار والمديح، عبر تلقفها والتعبير بها عن "وجدان" الإنسان المغربي، أو الجزائري، أو التونسي، أو الإفريقي المتمثل في السينغالي على وجه التخصيص. طبعا، قد نختلف فيما يتعلق بنجاح الأدب الفرنكفوني في ترجمة آمال وآلام الشعوب المستضعفة التي رزحت تحت " الأقدام السوداء " الفرنسية، وقد نكتفي بتوصيفه بالفلكلوري والدعائي والاستعراضي، قليل الروح، ضئيل جرعة الصدق والتجذر في تربة تاريخ ووجه البلدان المغلوبة. لكن، ما لا يمكن أن نختلف فيه، هو أن هذا الأدب صنع تاريخا سياقيا موازيا وإضافيا إلى التاريخ الأسبق، وجسد صوتا إغنائيا وإثرائيا للأدب الفرنسي بالرمز والصورة والتركيب، والنَّفَس الحضاري المختلف، والإنجاز الإبداعي الملفت، على رغم أنه عنوان اسم جريح، اسم افريقي أو عربي أو أمازيغي سيان. وعلى رغم تصنيفه فرنكوفونيا فقط. ما يعني: ثانياً من حيث الترتيب اللغوي والثقافي قياسا بالأدب الفرنسي القح، أي الأدب المكتوب بأقلام فرنسيين وفرنسيات مَحْتِدًا ودما وسلالة وجينات، وانتماء لتاريخية تَنْحَدِرُ إلى الرومان فاللاَّتينْ. هذا، مع العلم أن شاعرا "زنوجيا " كبيراً مثل ليبولدْ سيدارْ سينغورْ اعتبر الفرنسية مصدر أنوار، وجمال وبهاء، وأن كلماتها " تشع من ألف نار، مثل شهب تضيء ليل افريقيا "، بل وأتى فيها بالعجيب المدهش، والبديع الفاتن شعرا ونثرا ضمن اللغة إياها ، مثلما فعل صنوه وخدينه الشاعر الزنوجي المارتينيكي الفذ "إيمي سيزير".

نعم، لقد فطن الكتاب المغاربيون الفرنكوفونيون إلى مَنْفَاهم داخل اللغة الفرنسية، وتحسسوا غربتهم وهم يخوضون بها معركة الإثبات والوجود، ثم وهم يقتحمون، بها وعبرها، مجاهيل أرَاضٍ في الحلم، ويجترحون من خلالها أفقا لسانيا مخصوصا، منشبكا بواقع الاستعمار، مستعملا أداته الثقافية والحضارية، واعيا بجرحه المزدوج، وغربته في اللغة المُسْتَعْمَلَة ( بالفتح )، والمُسْتَعْمِلَة ( بالكسر )، في آن. إذ بقدر ما هو سيد يُطَوِّعُ فكر المحتل ممتطيا لغته، بقدر ما هو مُمْتَطىً، أسير وجدان غريب، ولغة خارجية، وثقافة مغايرة، وحضارة مختلفة.

ولئن كان "كاتب ياسين" قد جعل من الفرنسية "غنيمة حرب"، ورأى إليها كمثل أسلاب وسبايا، له كامل الصلاحية في حيازتها، وانتهاكها، وهتك "حرمتها "، و" تفجير" أسلبتها الأرستقراطية، وتعابيرها الناعمة الفاغمة التي تَرْشَحُ بعطر الصالونات الباريسية، ودَانْتِيلْ حسناوات فرنسا، وَغُنْج حضارتها، فإنه لم يكن ليخفي انْسِحاقه ضمنها، وتفتت هويته وهو يكتب بها، وينكتب فيها. وقد عبر عن ذلك، وفيما يصاقب الرأي ذاته، كل من عبد اللطيف اللعبي، والطاهر بنجلون، وعبد الكبير الخطيبي، وادريس الشرايبي، ورشيد بوجدرة، ورشيد الميموني، وآسيا جبار وغيرهم، مع تفاوتات بينهم في الحدة والتراخي. فلسنا بصدد التعريج على ما قالوا، وما دبجوا من أفكار ضدية حيال الفرنكوفونية، ولا بصدد التذكير بالصراع الفكري، والفلسفي، واللغوي، والحضاري الذي نَشَبَ فَتْرَتَئِذٍ بين أنصار العربية الفصيحة، والفرنكوفونيين، ولا بصدد تسطير تناقضات بعض ممن ذكرنا، والتي تجد تعبيرها في التنصل من الفرنكوفونية، وتمجيدها في آن، بل وتفضيلها على اللغة الأم، إذ هي عنوان الحضارة، وبيرق المجد والثقافة، والمرقى إلى الإشراف والحضور في العالم المتمدن والمتقدم. !! .

ولقائل أن يقول : كيف يستقيم الكلام عن التعدد اللغوي، وأهميته، وضرورته في التلاقح الثقافي، والتصاهر المعرفي، والتبادل الخبراتي والتجاربي؟، وأنت تنكأ جرحا اندمل، وتستعيد معركة تبخرت أسبابها ودواعيها، وترسخ حصادها وحصائلها، وَتَوَّجَتْ أعمال بنيها المغتربين، المقتلعين، المنفيين فيها، بأرقى الجوائز، وأوراق الغار، والدخول إلى الأكاديمية الفرنسية: (حالة آسيا جَبَّار، وبعدها أمين معلوف)، مدثرة بإزار الخلود، وملفعة برداء الهيبة، وصولجان المعرفة، وسلطان الأدب والفن.

وهو تساؤل يقودنا إلى الإفضاء بناتج التلبيس والملابسة بين الفرنسية والفرنكوفونية، أي بضرورة التفطن إلى الفرق الدقيق بينهما، وإن كانت الفرنوكفونية هي الفرنسية عائدة ومستعادة مؤدلجة ومسيسة، وهادفة إلى اصطناع كل الوسائل والأدوات والمقتربات من أجل الانتشار، والتوسعة، وتأبيد الإقامة فيما يتخطى حدودها ومستعمراتها القديمة. ومن ثمة، بات القول بالتعدد اللغوي والثقافي، بديهة لازمة-لازبة، لأن الواحدية والأحادية اللغوية، انعزالٌ وتسويرٌ، وضمورٌ وتلاشٍ واندثار. ولأن " من ينغلق داخل لغته المحلية، ينغلق في فقره " بتعبير فرنسوا ميتران الرئيس الفرنسي الاشتراكي الأسبق. وبناء عليه، فإن الفرنسية كلغة وثقافة خدمت إنسانية الإنسان، وأضاءت بين يديه الطرق والسبل، وأنارت حاضره وآفاقه المعتمة. ولا يُماري في هذه الحقيقة إلا متنطع، أو جاحد، أو جاهل بتاريخ الثقافة والحضارة الفرنسيتين. وإذاً، فلا معدى من ذكر الأنواريين والموسوعيين، والعقلانيين الفرنسيين كمثل ديكارت وكوندورسي، وفولتير، ومونتيسكيو، وروسو، وديدرو، وموليير، وبوانكاري، وماري كيري، وفكتور هيغو، وبودلير، ومختلف التيارات الأدبية والفنية والتشكيلية والشعرية والموسيقية، الخ، من دون أن نذكر آخرين يَقْصُرُ المقام عن الإشارة إليهم، فهم كُثْرٌ.

فهذا وحده يجعلنا نكف عن رَمْيِ الفرنسية بالطغيان والجبروت والسيطرة، واستعباد الغير بالمعنى الذي يشدك إلى تسابيح الأنوار، والنجوم، وشرارات العقل المتوهجة، ولهيب الوجدان المشتعل. ولاشك أن بعض هذه الأبعاد والتجليات الملتمعة فادحة الرقي والأناقة، هي ما حمل "سنغور" "وسيزير"، سابقا، وآسيا جبار، وبنجلون، واللعبي، وأمين معلوف، وياسمينة خضرة، وفؤاد العروي، وعبد الحق سرحان حاليا، إلى الإشادة بفرنسا الحضارية، فرنسا الثقافية، فرنسا اللغوية، فرنسا الأناقة المخيالية، والبديعية، والمَتْحَفية، لا فرنسا الاستعمارية، فرنسا "الأقدام السوداء"، فرنسا "المتوحشة" التي تنكرت لماضيها الحقوقي فجأة، وداهمت ــ بِلَيْلٍ، ثم في رابعة النهارــ بلدانا آمنة، كانت تستطيب أماسيها السحرية والساحرة، وتستمريء أيامها، و" انحطاطها ".

لا مجال لوضع مثل هذا السؤال اليوم: هل كان الاستعمار نعمة أم نقمة؟، ولا مجال للتخمين والحدس: لو لم يدخل الاستعمار بلدانا بأعيانها، وتركها لنفسها ومشيئتها، وقدرها، وصروف عيشها، كيف كانت ستكون؟. وهل اسْتَهْدَفَ دُخُولُهُ "الحضاري"، قتلَ التخلف، واستئصال شأفة الشعوذة والخرافة والأمراض المختلفة؟، أم استَهْدَفَ شيئا آخر تماما، ملخصه: الاستعباد، والاستغلال، وتركيم ثرواته، للرفع من مستوى عيش ورَفاهِ مواطنيه هو..؟.

إن الثقافة الفرنسية بما هي ثقافة تَجَسْدَنَتْ في الفكر المتنور، والمعرفة العلمية الباهرة، والأدب الراقي الكلاسيكي، والرومانسي، والرمزي ، والبرناسي، والسوريالي، وفي الموسيقا، والسنفونيات، والمسرح الباذخ، لا يمكن – بحال- أن نعتبرها جزءا من آلة قمعية إلا ما كان من اللغة اليومية التواصلية الباردة التي تستضمر الأمر والنهي، وتستبطن – نعم- التفوق الحضاري لعوامل تاريخية يضيق المقام عن استعراضها. زد على ذلك، أن غلبة اللغة والثقافة من غلبة أصحابهما. وهي إذ تُوَطِّدُ للغلبة، تتوسل القمع ذَرِيعةً لهذا التوطيد والتوطين، من دون أن يعتبرها المرء قامعة على "الدوام"، وأداة احتقار وتحقير واستعباد. فلو قُيّضَ للعربية أن تسود كما سادت الفرنسية، وتسود –اليوم- كونيا كما تسود الإنجليزية، لتحولت إلى آلة قمعية وفق هذا المعيار، وبحسب هذا التصور، والتقدير للأشياء والأمور. ولنا في البلدان المفتوحة إسلاميا –عبر المعمور- وعبر التاريخ، ما يؤيد قولنا. هذا مع استحضار التعايش والتساكن، ولكن الذّميَّ ذِمِيٌّ، والغالب سَيِّدٌ ومهيمن. وكيف نفهم الهيمنة ما لم تتبلور في اللغة وعبر سلطانها؟.

" فالتجرد أمر ليس بالهين، فنحن دوما نفكر عبر اللغة، واللغة مشبعة بالدلالات الدينية، والدلالة الدينية عميقة في تراثنا وغائرة " فيما يقول الباحث والروائي يوسف زيدان.

إن فوائد الازدواجية اللغوية، أو التعدد اللغوي، جَمَّةٌ، لا تحصى. وهي ضرورة إنسانية كونية، تثري وتغني، وتعمل على تقليص الهوة، والتقريب والمصاقبة بين الأفراد والجماعات والشعوب، وصولا إل التمازج والتحاور والتكامل من أجل تحقيق وإحقاق الوئام والتناغم بين الكائنات البشرية على الأرض. وبَدَهِيٌّ أن تكون الغلبةُ لِلُغَةٍ على لُغَةٍ، والتَّسَيُّدُ لتصورٍ لساني على تصور آخر، والهيمنة لجنسٍ بشري على جنس، والطلائعية لأولئك الذين رفعوا لغتهم إلى الذرى، وأتوا من خلالهما بالمعجز العلمي، والفكري والفني والتكنولوجي، إنها نوع من الهِيجِمُونْيا. أما الملتحق، المجرور والمغلوب حضاريا –لأسباب تاريخية، ودينية، وثقافية، وآدمية حتى- فإذْ يتطلع ويرنو ساعيا إلى اللحاق، والقبض على "تلابيب" الطائر، يستشعر – لا محالة- وهو في حالة لهاث وإعياء وانكسار- بالقهر والتأخر، ومن ثَمَّ بالقمع، ما يدفعه إلى الحقد والغِلِّ.

أما غِلُّ اليائس المحبط، فخطير وهدام، وباعث على الانكفاء، وتقديس الذات واللغة، واجترار الفوات والخوالي.

فإن كنا نرى بعين واحدة ، إلى لغة وثقافة الغالب بوصفهما أَدَاتَيْ قهر وقمع واستعباد، واجتثات للغة المغلوب، فسيترتب على هذه الرؤية، بالتلازم والتداعي، وجوب وَصْم وَدَمْغ بريطانيا والاتحاد السوفياتي سابقا، وبلجيكا، وهولندا، وإسبانيا، والبرتغال، وإيطاليا، وألمانيا، وتركيا العثمانية، بالاستعمار القاهر والاجتثاتي، ما يسمح بالقول إن الإنجليزية والروسية والهولندية والإسبانية والبرتغالية والإيطالية، والألمانية، والتركية، والفرنسية، لغات وثقافات، هي أدوات قهر، وحِجْر، وهيمنة واستتباع، إذ نخلط –حينئذ- بين الروح والمادة، بين النبض والومض والتعالي، بين الاستعمال والتسخير اللغوي والثقافي، وبين البناء والعمران الحضاري، والرقي الإنساني بنفس اللغة والثقافة، وعبرهما، ومن خلالهما. فستالينْ الروسي ليس هو: تولستويْ وبوشكينْ. وفرانكو الإسباني: ليس هو: لوركا، وَمَاتْشَادُو. وَسَالاَزَرْ البرتغالي ليس هو: فرناندُو بْسُّوا، وساماغو. وَمُوسُوليني الإيطالي ليس هو: دَانْتِي، وَبَازُوليني، وفيردي. "والمقيم العام الفرنسي بالجمع" ليس هو: هُوغُو، وبودلير، وَزُولا، وبلزاك، وسارتر، وفوكو. وهتلر الألماني ليس هو: غُوتهْ وهلدرلين، وَريلكِهْ، وهيدجرْ.

اللغة والثقافة جُمَاعُ تاريخ وعقلية ووجدان، هما حَمَّالتا أَوْجُه، وأداتا استعمال بحسب الظروف والوضعيات والمجالات والأشراط. ولكنهما جسران متحركان حَيِيَّان للتواصل والتثاقف، والحوار، كما أنهما جسران للاحتراب والدمار. غير أن روح الإنسان النابضة بالعمق التسامحي، والواصلة الموصلة بالجذر التشابهي، والبعد التماثلي، والتوق الآدمي التناغمي والتكاملي، يتسيد المشهد، والمنظر، وحركية الزمن والمستقبل. تلك حتمية لا مناص منها. فعلى أي أساس ينعقد التعدد اللغوي والثقافي من دون طمس الأصالة المتجددة، والهوية المنفتحة، والشخصية الإنسية الوازنة، والكينونة المسؤولة المتوثبة؟.

لا خلاف أنه ينعقد بموجب مسببات ومقتضيات وعلل، في مقدمتها الفضول اللغوي والإثني والسياحي، والرغبة في السفر والاكتشاف والطلب . وكان للبحار والمحيطات على خطورتها، في تلك الأحقاب وظلماتها، دور التعارف، واللحام والتلاحم ، ما أفضى إلى التبادل البضائعي، والمقايضاتي، والعوائدي، واللغوي. فاللسان ذريعة إلى تكسير الجليد، ورفع الكلفة، وهزم الخَرَسِ والحيطان. وكان الغزو، من جهة أخرى، مدخلا إلى الازدواجية والتعددية، وأحيانا إلى موت اللغة المغزوة، وهيمنة اللغة الغازية متى ما تَمَظْهَرَتْ لغة المغزو المستضعف، "فقيرة"، و"مهزومة" و"محدودة". أيْ: متى ما عرفنا عدم تجذرها، ونأيها عن التاريخ والحضارة، والتموضع في العالم. ولنا في مقتل لغات الهنود الحمر، ولغات بعض الدول الإفريقية، أنصع وأظهر مثال. ذلك أن الكولونيالية استضعفت هذه الشعوب، واحتقرت "حضارتها" واستهجنت "لغتها" و"تراثها"، بدعوى قصورهذه اللغة، وارتباطها بالسحر والشعوذة والطوطمية والفيتيشية، علما أن الأنتروبولوجيين ردوا للشعوب المذكورة، الاعتبار التاريخي والحضاري، مبرزين غنى روحها وثقافتها، وبديع إسهامها الفني والشعري والديني، والطقوسي، كرافد من روافد الحضارات جميعها التي تصب وتلتقي في نهر الحضارة الكونية الأعظم. كما أن " تعدد اللغات يمثل مصدر قوة وخير للبشرية. وهو يجسد التنوع الثقافي، ويشجع تمازج وجهات النظر، وتجدد الأفكار، وتوسيع أفق الخيال. إذ لا يمكن إقامة حوار حقيقي، كما قالت " إيرينا بوكوفا " المديرة السابقة لمنظمة اليونسكو، إلا باحترام اللغات ".

فلئن كانت "الفرنسية" كلغة وثقافة، غنيمة حرب فيما يقول الجزائري "كاتب ياسين" "butin de guerre"، وصدقنا أنها كذلك، فالقولة إياها مدعاة إلى التعامل الحذر باعتبار الفرنسية أداة قمع وقهر وغطرسة، ما دام أنها ( أي القولة )، تعير لإنجاز "الأهالي" والأدباء الفرنكوفونيين، الأهمية الاستثنائية، أي أنها احتياز اللُّغة الفرنسية بما هي منفى في رأي مالك حداد، وامتطاء وتطويع لها، سَوَاءٌ بسَوَاء.

فتفجيرها، وانتهاكها، وشقلبة بنايتها الفارهة، وإتيانها بطرق ابتداعية مخصوصة، ولائطة بالكتاب المغاربيين، برهان ساطع على غَنْمِها وسلبها، وافتكاك أَسِرْها وسَدَّادَتها، واختراق حدودها، وافتضاض "عذريتها".

والكلام عن: " صدمة الهوية كنتاج لحالة الاستلاب اللغوي التي تحرمهم من إمكانية الكتابة، والقول بلغتهم التاريخية الوطنية أو حتى بعاميتها الدارجة،" كما فَاهَ به الكاتبان: أحمد الصفريوي، وإدريس الشرايبي وغيرهما، هو كلام أمسى في ذمة الماضي، بعد أن أصبح غير ذي معنى مع توالي وتزاحم الأحداث والتحولات. لقد سال كثير من الحبر الفرنكوفوني بعد قولة الصفريوي والشرايبي، وحقق – بما لا يقاس- إضافة نوعية إلى ريبرتوار الآداب الفرنسية، "محض" فرنسية ذات الجذور والأوراق المتشابكة بالعقلية والتطور التاريخي، والوجدان الفرنسي العام. وإلا فماذا نحن قائلون عن العولمة والنظام العالمي الجديد الذي تقوده اللغة الإنجليزية، والثقافة الأنكلوــ أمريكية بمعناها الأنثربولوجي، والحال أنهما تغلغلتا في حياتنا، وفي أدق مسام وجودنا وموجوديتنا وكينونتنا؟. هل نَسِمُهُما بالقهر، والغلبة والاستحواذ، والاستعباد، ومحو باقي الهويات واللغات والثقافات المختلفة؟. إن المسألة أكبر من أن نجيب عنها، وأعقد من أن نحيط بها، وَنَتَقَرَّاها لنقطع في أمرها، ونحسم في وجودها ومأتاها وحصائلها، وعقابيلها.

لقد ورد على لسان الاقتصادي اللامع، والمثقف المتميز المرحوم إدريس بنعلي في سياق ندوة انعقدت بمناسبة الجامعة السياسية للحزب الاشتراكي الموحد، ذات عام، وقبل أن يُسْبِلَ جفنيه إلى الأبد، ما يلي:

"يمكن أن نعيب على الفرنسيين كل شيء، لكن ينبغي أن نعترف لهم بأنهم أرسوا معنى الدولة في هذا البلد...".

وفي ذلك ما فيه من دلالات، لعل أدناها أن يكون انْسلَاكُنا في خيط النظام العام، والمؤسسات، وبناء دواليب الإدارة والمرافق الحيوية العامة، والتخطيط المحكم لحاضر البلاد، ومستقبلها، ما يسمح بالقول، من دون تردد، أن الفرنسية ساعدتنا – فيما ساعدتنا به- على أن نكون دولة مدنية، ومجتمعا متحضرا يَرْنُو إلى الأفق، ويسعى إلى اللحاق بالركب الحضاري الأوروبي، والأمريكي، والأسيوي، فيما هو يزيح الغبار، وشظايا الأنقاض عن مجد تاريخي يومض من بعيد، وَيَغْمِزُ " كاللَّمْبَةِ" الباهتة بين يدي الريح والانهيار.

تــــنـــــويـــــه:

*سيادة الفرنكوفونية في واقع البلاد: إدارة ومؤسسات كبرى وصغرى، ومقاولات، ودوائر مختلفة، يعود إلى غياب الإرادة السياسية في الإصلاح والتغيير، وإعمال الدستور إعمالا تطبيقيا وإجرائيا.

*يقول المفكر التونسي عبد السلام المسدي: "الإصلاح السياسي يتضمن بالضرورة الإصلاح اللغوي، والسيادة لا تستقيم أبدا إلا بالسيادة اللغوية".

*الآراء التي وردت على لسان سنغور، والصفريوي، وأندريه مالرو، وفرنسوا ميتران، مقبوسة من كُتَيِّب الروائي والمفكر بنسالم حميش : (الفرنكفونية ومأساة أدبنا الفرنسي).