فن وإعلام

قراءة لديوان بوعزة صنعاوي "ضحكت القصيدة"

مجيدة السباعي
لامحالة أن المجتمع يرتبط ارتباطا وثيقا بالأدب ، يبصم رؤى الأديب وانطباعاته، ينعكس على مواقفه وانفعالاته، يؤثر بعمق على تجربته الشعرية مما يحيل نصوصه مرآة اجتماعية عاكسة، تعلق وراءها أشجانه وهواجسه وتنحت تفاصيل ألمه بصدق وشفافية.
يقول زكي مبارك: (إن الحياة هي كتاب الأديب، فالأدب يجب أن يكون من وحي الحياة وإنه من الضروري أن نعيش الحياة حتى نكتب آيات الوجود).. رسالة الأدب ص7
دوما كان النقد لصيقا بالحياة ، إلا ان الناقد هنا  زجال بارع في تطويع الحرف و تسخيره باللغة المحكية، ملونا بسخرية سوداء ناقدة بامتياز.
الشاعر:
هو ذ بوعزة الصنعاوي رمز باذخ من رموز القصيدة الزجلية، زجال مثقف ضليع، يقبض على جمرة الإبداع بقلم تنوير وتحسيس، اختط لنفسه مسارا ثقافيا ناجحا. 
يعانق الحياة حد الهوس، لكن ير فض ألوانها الرمادية، فينشر البهجة ويضمد الألم برحيق الجرأة ومتعة الإدهاش وشموخ الحضور. 
اتخذ زجليا ته مطية للبوح الهادف، و سبيلا ناجعا لنقد مجتمعه، لا يكف يجوب دروب اليومي، ويتوسل سراديب الواقع بما يضج به من قبح وبشاعة وقرف أحيانا، ليؤكد أن الزجل موقف مسؤول من الحياة ورؤى عتيدة، تبدد كل عتمة لاذعة ..بحق ما كان الحرف إلا رسول الوجع. 
بموضوعاته المتفردة وخطابه المذهل ظفر بسمعة جريئة إيجابية، نعم بحب جمهور عريض، تميز بأسلوب استثنائي يثير الفضول الجميل، وعين ثالثة كاشفة تسبر أغوار الذات بحرفية وتمرس.
قال جلال الدين الرومي :
              )دع قلبك يعزف موسيقى روحك.( 
دلالة العنوان:      ضحكت القصيدة 
عنوان شاعري مثير جذاب رغم بساطته عميق الإيحاء، يمنح المتن الشعري هويته و بعد رمزيته، صيغ قصدا بالدارجة للدلالة على اللغة المختارة، جاء عبارة عن جملة فعلية، حيث أنسن الفعل فضحت القصيدة، وليس لها فم ليضحك، وعادة إن الإنسان من يضحك.
 لاشك أن فعل الإضحاك محور أساسي ومقصد رئيسي ، فنحن على موعد مع الإضحاك في أسمى تجلياته وأبعد مراميه، إلا أنه إضحاك غير برئ..
 يبدو جليا أن المبدع اشتغل بحذق على العنوان.
يقول د عصام شرتح: 
(تكمن جمالية العنوان في مساحته الدلالية التي يشغلها، والإشعاعا ت الدالية التي يبثها لإضاءة ما يختزنه المتن من منظورات ورؤى.)
في كتابه دراسة جمالية في البنية والدلالة ط2 ص78
الكلام(ية في البنية والدلالة ط2 ص
دلالة الغلاف:
تصميم الغلاف متناغم ودلالة العنوان
 تتوسط أرضيته الوردية لوحة تشكيلية بديعة، ازدانت بلونها الأزرق اللافت، تستجدي الطرب والإضحاك والحبور، بمشهد مطربين عازفين على آلات عربية ،ترقص بينهم امرأة على أنغام تبدو شعبية لما توحي به طريقة العزف، يبدو جليا أنهاامرأة مسنة تتخلص من أوجاع الحياة في رقص مجنون ، لا يبدو لوجهها ملامح، وكأنها ترمز لتجاعيد الزمن، ترقص كما يرقص الطائر المذبوح.
وفق زجالنا باختيار اللون الأزرق ، فما اللون إلا دلالة مثيرة و صورة جمالية من صور الحياة، وتعبير عن انفعالات المبدع ومدى تأثره النفسي بمواقف معينة تؤرقه ، فالأزرق رمز الصفاء والسكينة والإشراق، لون مثير يخفف الهموم، ينفس عن اللواعج الدفينة، يهدئ من حدة الغضب، يشحذ بالطاقة الإيجابية، يثري المواقف الشعورية، و يعد بآمال عريضة. 
ما السخرية السوداء إلا تجربة إنسانية مفتوحة على الحياة والإنسان، تتماهى مع معترك اليومي، وتتغلغل بأعماق تفاصيله حيث الخلل والعوج والخيبات.
 مفارقة اجتماعية تنبش بعمق غياهب قضايا المجتمع، تنطوي على مضامين إنسانية، تساهم في بناء الإنسان وتقويم الاعوجاج..
عرض سخي يهدي المتعة والفرجة، ينثر قهقها ت حادة، لكن يمرر دلالات إيحائية و رسائل هادفة مبطنة مريرة..كما قيل (كثرة الهم كتضحك(  
 أسلوب واع ومغامرة داخل اللغة، تمزج بين الجدية و السخرية بعيدا عن الانفعال الحاد أو الاستسلام السلبي العاثر، حيث تدعو إلى اكتساب القيم والحياة الكريمة المنشودة.
اللغة: 
لامجال للشك أن المبدع يتملك ناصية اللغة..
لذا جاءت لغة متنه الشعري سلسة موجزة رمزية مؤثرة، لها انسيابية متدفقة و انسجام لافت، تفوح ببلاغة الرسالة وجرأة الخطاب.. 
 لها لون خاص ونكهة متفردة وأداء فني ممسرح ببعد نقدي مستتر يكسر جدار الصمت، يفتح تساؤلات عدة، يدعو لتدبر ما وراء النص ... خاصة الإنصات لأوجاع دفينة ، كان المبدع كمن يرقص على الجمر حافيا ولا يشتكي.
 لغة تتغذى من مشارب ثقافية وروحية ثرية، مما يجعلها لغة إيحائية متلاعبة بالألفاظ و تكرارها..
 يقول باشلار:
)في الشعر ترافق الدهشة متعة التوجه(. 
الموضوعات بعيدة عن التكلف والتصنع، حبلى بمواقف انتقادية قوية ، تخاطب العقل والقلب والعاطفة ، لعل الغاية منها ما ارتآه محمد الخزوم:
)  نشر ثقافة التسامح والتصالح مع الذات والمكاشفة الجادة والهادفة).
في كل زجلية يخرج المبدع من رماد احتراقه كالفينيق بألف شرخ ليستنطق اللغة، ويستنزف طاقتها الجمالية برمزية انتقادية عالية، تلخص الوجع لكن تمنح متعة لامتناهية، تغرق المتلقي في متعة ضحك لا متناهية تنسيه مكانه ومن معه..
للمبدع قدرة كبيرة على شحن لغته بدلالات ورموز، تشد الانتباه لتشي بما في الحلق من غصص و غضب دفين مبطن هادئ، دس بين حروف ظاهرها نقيض باطنها. 
أغلب زجلياته يشهد لها بالعمق المعرفي والدلالة البعيدة ..إنها قراءة متأنية لأعراش المجتمع ، وتحليل الحياة الاجتماعية لدفع كل أسباب الظلم والذل وجراحات الذات.
 بغيته  أن ينعم الناس كلهم بالسعادة والسكينة في مجتمع خال من الآفات والنواقص والأحقاد، تحكمه الشفافية والعدل وتسوده الأخلاق والقيم.
فالذي لا ينتصر للحياة الكريمة ميت، ولو يمشي على الأقدام.
و تقدير الإنسان، تنشد المساواة، تدفع بكل ألم تمدد أو تعمق  و خاصة تستثمر الإضحاك لكشف بواطن النفس.