رأي

محمد بنعزيز: الثقافة البصرية في الإخراج السينمائي

كان الأطفال يربون شفويا والآن يربون بصريا برؤية الشاشات. كان الحكي هو سينما العصور الشفوية والشعوب اللاكتابية التي تعتمد الأذن أساسا، لكننا حاليا نعيش مجد العين، لذا تهيمن الأيقونات على السينما التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي وشاشات الهواتف... وصارت للسيارات وأندية كرة القدم والشركات "هوية بصرية".... وهذا يفرض اكتشاف سبل جديدة للتواصل بالعين مع المتفرج.

كان فاوست – الحقيقي لا بطل غوته- حكاء شعبيا يشرح هوميروس ويصف شخصيات الإلياذة باللغة الإغريقية كما لو كان رآها بعينه. فجأة طلب منه مستمعوه أن يستحضر أرواح تلك الشخصيات ففعل.(1) هكذا جرى الانتقال من الحكي للأذن إلى الحكي للعين، وصار بإمكان البربري – أي غير الإغريقي – أن يفهم الإلياذة بالبصر.

 

هذه حكاية قديمة، إليكم نظيرها العصري:

دخل طفل رفقة والده إلى قاعة سينما في مراكش، خرج ولم يفهم شيئا، فسأل والده بأي لغة تتكلم شخصيات الفيلم؟ رد الأب: إنها الهندية.

فتساءل الطفل: ولماذا يضحكون بالعربية؟

الضحك لا لغة له.

تبلبل الطفل، لأنه لم يفهم لغة الأذن المتعددة التي تحتاج إلى ترجمة؛ لكنه فهم لغة العين، فهي لغة كونية. العين أكثر تأثيرا. تقول أغنية مغربية قديمة "العين طريق الألم إلى القلب"، وطريق الفرح أيضا. لذا ركبت الشاشة طريق العين.

الإخراج هو التفكير بالصور

لكن الانتقال من وسيط إبداعي لغوي إلى وسيط بصري عمل صعب، وقد كانت سينما شارلي شابلن صرحا بصريا لا يقارن في تأثيره على المتفرجين بغض النظر عن لغاتهم... وقد خرج الطفل من قاعة السينما مبتهجا؛ لأن كمية المعلومات التي تستهلكها العين أضعاف ما تستهلكه الأذن وباقي الحواس من لمس وذوق وشم.

وقبل أن تقدم تلك المعلومات للعين لا بد أن تلتقطها كاميرا مخرج ذي ثقافة بصرية محكية. جاء في معجم المسرح: "يقوم الإخراج بتنسيق وضبط إيقاع الأنظمة المشهدية المختلفة بكاملها، والانتقال من فعل إلى آخر" (2). وهنا يكمن الفرق بين المخرجين. فرق ناتج عن غنى أو فقر الأنظمة المشهدية التي تربوا في سياقها. وهنا أيضا يكمن الفرق بين المخرج شمال البحر المتوسط والمخرج في شرق وجنوب المتوسط.

مخرجو شمال المتوسط في متحف مفتوح

لقد تربى المخرج شمال المتوسط في أثينا وروما وبرشلونة، حيث المتاحف والتماثيل واللوحات والمواكب في الكنائس... وهذه أنظمة مشهدية مركبة متجذرة في نمط التدين المسيحي المرئي... بينما المخرج جنوب المتوسط نادرا ما يدخل المتحف وإن فعل ففي سن العشرين. وللعلم، فقد أسس أول متحف مغربي للفن المعاصر في 2014. بينما وثقت الثقافة الإغريقية في شمال المتوسط لوعي بصري مبكر.

يحكي إيسوب في القرن السادس قبل الميلاد أن بروموثيوس خلق الإنسان، فجاءه موماس إله السخرية ينتقده؛ لأن بروموثيوس لم يجعل عقل الإنسان ملحقا بجسده من الخارج حتى تصبح أفكاره مرئية وبذلك لا يستطيع الأشرار كتمان ما لديهم من أفكار سيئة. (3) حاليا، تقوم الكاميرا بجعل أسرار الأشرار مرئية لذا تنجح أفلام الأوغاد.

 

في الحضارة الرومانية شكلت التماثيل مفخرة للإمبراطورية، وقد تبنت الكنيسة المسيحية هذا التقليد لحسابها، ففي روما اعتبر البابا غريغوري الأول (590-604م) أن التماثيل هي كتب الأميين. وأضاف: "إن عبادة الصورة لخطأ، لكن ما يستحق الثناء هو أن نعرف من خلال الصورة ما ينبغي عبادته" (4) لذلك تم تحويل سير القديسين (مثل الأسطورة الذهبية 1260) التي كتبها جاك دو فوراجين إلى لوحات يغلب عليها الأصفر الذهبي. ويستطيع المؤمن الذي يزور الكنيسة سماع الحكاية ومشاهدتها مصورة على الجدران والسقوف.

ونتج عن هذه المشاهدة في كل قداس تملك المتلقين، وخاصة منهم الرسامين لوعي بصري عريق وعميق... في تأكيده على دور الصور في الدعاية الدينية في القرن السادس عشر، يقول ريتشارد موريسون: "إن الأشياء تنفذ إلى العقل من خلال العيون أسرع من نفاذها من خلال الآذان".

من فرط التسامح الديني مع التماثيل والصور في أوروبا هاجم دون كيشوت الرهبان الذين يحملون صورة مريم. يريد تحريرها من أسرهم. (5).

في هذه البيئة الغنية بصريا تشكل وعْي مخرجين عالميين طبعهم التدين المرئي، ومنهم تاركوفسكي (أندري روبليف 1966) وأنجيلو وبولوس (فيلم الارض التي تبكي 2004) وفيليني (فيلم ليالي كابيريا 1957)... وليس صدفة أن يردد بطل فيلم فيليني "لاسترادا" زمبانو (أنتوني كوين) "إذا فقدنا البصر فقدنا كل شيء".

وقد فهم موسيليني أهمية الصورة لذا أقام ستوديوو فينيسيتا ومهرجان فينيسيا. في روما درس ماركيز السينما قبل أن يشتهر كروائي، لذلك لديه تشبث بالصورة وسرت في دمه، في "مائة عام من العزلة" يصف القطار ذا المدخنة بأنه "مطبخ يجر وراءه قرية". (6) ومن تجليات ذلك الوعي لاحقا أن ماركيز في كتابه "ورشة سيناريو" ينصح المخرج بالبحث عن قصة تتحمل التطوير باللغة السمعية البصرية. يقول الناقد السينمائي الشهير فرنسوا تروفو بأنك تصنع فيلما عندما يكون لديك شيء لتريه لا لتقوله.

إن الثقافة البصرية هي التي مكنت هؤلاء المخرجين من صناعة الفارق، بينما هذه الثقافة مفقودة في جنوب المتوسط. هنا لا مكان للأنظمة المشهدية المركبة. لا رسم زيتي ولا كرنفال مختلط ملون. حقل وحي عشوائي وفسيفساء. هنا غض البصر واجب ديني. هنا يغلق المتصوف عينيه لكي لا يرى الواقع. وفي تفضيل البصيرة على البصر، تفضيل عين القلب على عين الرأس. يقول الجاحظ "لا تذهب إلى ما تريك العين، واذهب إلى ما يريك العقل". (7).

لقد قارن بيرت سيريل في كتابه "علم النفس الديني" بين طرق البحث عن الإشراق لدى متصوفة الإسلام وبين متصوفة المسيحية الذين يحملون صور مريم والمسيح. يقول سيريل: "إن المتصوفين الشرقيين يفضلون أن يستثيروا هذه الأحوال بأن يغمضوا أعينهم عن هذه الدنيا الدنيئة وأشيائها الزهيدة وينظروا إلى داخل نفوسهم.

أما مسيحيو القرون الوسطى فكانوا يستجلبونها بإخماد الجسم وتركيز الأفكار على رمز ديني" (8) بدل تأمل الرمز واللوحة يغلق متصوف جنوب المتوسط عينيه فيحجب عن نفسه الواقع المادي المجسم الذي تبحث عنه كاميرا المخرج. وهي كاميرا لا تغض البصر. وهذه مهمتها.

 

قبل الإسلام، كان هناك تأثير روماني في جنوب المتوسط. يحكي ابن السائب الكلبي "أن الصنم القريشي كانت عليه حلة، كان يتقلد سيفا وبين يديه حربة" (9) وهو بذلك له هيئة فارس روماني... لكن النحت والتصوير منعا في جنوب المتوسط لأن كل بيت فيه تجسيد نحتا كان أو تصويرا لا تدخله الملائكة. (يبدو أن هاتفك المحمول لن تدخله الملائكة لأن فيه صور كثيرة).

لقد حرم الإسلام تصوير الحيوان، منع رسم "ذوات الأرواح" لأن في رسم الكائنات الحية مضاهاة لخلق الله. (10).

جاء في الحديث النبوي "إِنَّ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ : أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ" (11) رواه البخاري (5607) ومسلم (2108) . لقد حرم التصوير كما حرم السرد لأن السرد مرادف للخيلاء. للكبرياء. قال النبي: "لا يقص على الناس إلا أمير أو مأمور أو مُختال" (12) بل وكتب السيوطي محذرا من أكاذيب القُصاص...

إن الرسم الوحيد الذي يراه الفرد جنوب المتوسط هو فسيفساء الزليج وتجريدات الزرابي في المساجد... الفسيفساء ليست محاكاة بصرية للحياة، لذا تفتقر العين في حضارات الفن التجريدي التي تخشى التجسيد... وأدى تحريم الرسم إلى حرمان الفرد من تأمل صور تشكل وجدانه فانعكس هذا على عين فناني الجنوب.

في هذا الوضع الذي يجرم الصورة، تربى مخرجو جنوب المتوسط... تربو بين حقل شعير وحي شعبي عشوائي، وهم يتفوقون فقط حين يصورون أفلاما مثل "هي فوضى؟" و"حين ميسرة".

ولكي لا يثير هذا التعميم المبرر اعتراضا من قبل البعض، يكفي معرفة عدد المتاحف في أي بلد عربي. حين تسأل مخرجا مغربيا متى زار متحفا أول مرة يفاجأ. وهو يعتمد عادة على مدير تصوير غربي لتعويض النقص. يقول غودار إن السينما هي "مسألة كادر".

حين يطلب من المخرج المغربي الحديث عن فيلمه يشير إلى الظاهرة السوسيولوجية مثل البطالة والدعارة والتطرف، ثم يسأله الصحافي عن الرسالة فيشرحها... وهي رسالة شريفة مستنبطة من القضية المطروحة. في كل هذه الحوارات لا حديث عن الصورة والتقطيع والإطار وفلسفته... نادرا ما يعرض جواب المخرج لمقاربة أو تقنية الاشتغال...

النتيجة أن المخرج المغربي مثلا لا يتحدث أبدا عن الإخراج. في الأفلام المغربية لقطات طويلة وحوارات أطول والممثلون متراصون بين الكاميرا وحائط أصفر يعكس الضوء... الفيلم يسمع أكثر مما يرى. المسافة كبيرة بين الحكي الشفوي والحكي البصري. في اللوحات الصور تكون العلاقة بين الدال والمدلول فعلية معللة وليست اعتباطية مثل اللغة. (13) إن الوعي بهذا الفارق ضروري لتجاوزه، ومن علامات إدراك القصور اعتماد الكثير من المخرجين جنوب المتوسط على مديري تصوير مدربين مكلفين من شماله.

ننتقل إلى برهنة بالخلف: ما هو أفضل فيلم عربي؟

غالبا ما يتكرر في الجواب اسم فيلم "المومياء" 1969. يفسر التفوق البصري لفيلم "المومياء" للمصري شادي عبد السلام بعيش المخرج المصري محاطا بالتماثيل الفرعونية... أخناتون ونفرتيتي... ورأى في المدافن الفرعونية رسوما لثعابين بلا رأس لكي لا تلدغ الميت.

 

بالإضافة لذلك درس شادي عبد السلام الفنون الجميلة، واهتم بالهندسة وعاش في لندن وصمم الديكور، وكل هذه العوامل سهلت مهمته كمخرج..

لقد صور طقوسا ذات إخراج بصري فرعوني عريق قبل أن يشتغل عليها. هنا سبب التفوق البصري لشادي، لقد توفر له ما لم يتوفر لغيره. لذلك جعل ما يفكر فيه مرئيا. قدم لقطات ذات محتوى بصري.... لقطات متصلة ممتدة تصور حدثا ويتولد منه آخر... وهذا استمرارية بصرية تتجاوز القصة المروية إلى منحها بعدا جماليا. إخراجيا يحيل إلى الدلالة البصرية للمصطلح الفرنسي metteur en scène ومن معانيه جعل الصورة الذهنية على الخشبة... تجسيد الفكرة لتلتقطها الكاميرا... ويحتاج هذا تدريبا طويلا للعين، وهذا التدريب ليس عادلا بين مخرجي جنوب المتوسط وشماله.

كيف تكتشف مخرجا له نظرة فنية وثقافة بصرية؟ بسيطة احذف الصوت وشاهد فيلمه.

المراجع المذكورة في النص

(1) جيته فاوست ترجمة عبد الرحمن بدوي دار المدى دمشق الطبعة الثانية 2007

(2) باتريس بافي معجم المسرح ترجمة ميشال ف. خطّار المنظمة العربية للترجمة بيروت الطبعة الأولى 2015 ص 205

(3) إيسوب حكايات إيسوب ترجمة إمام عبد الفتاح إمام دار المدى 2003 ص 91

(4) تايلور فيليب قصف العقول الدعاية للحرب منذ العالم القديم حتى العصر النووي عالم المعرفة عدد 256 ابريل 2000 الكويت ص 77

(5) ثربانتس دون كيخوته ترجمة عبد الرحمن بدوي دار المدى دمشق الطبعة الثالثة 2009 ص 521

(6) غابريل غارسيا ماركيز مائة عام من العزلة ترجمة صالح علماني ص 282

(7)الجاحظ الحيوان ج1 ص207

(8) بيرت سيريل علم النفس الديني ترجمة سمير عبده دار الآفاق الجديدة بيروت الطبعة الأولى 1985 ص 24

(9) الكلبي ابن السائب كتاب الأصنام تحقيق أحمد زكي باشا دار الكتب المصرية القاهرة الطبعة الثالثة 1995 ص 106

(10) انظر الفتاوي على موقع https://islamqa.info/ar/180539

(11) رواه البخاري (5607) ومسلم (2108)

(12) عمر فلاته الوضع في الحديث مؤسسة مناهل العرفان بيروت 1981ص 275

(13) برنار فاليت الرواية مدخل إلى مناهج التحليل الأدبي وتقنياته ترجمة سمية الجراح المنظمة العربية للترجمة بيروت 2013 ص 98.