تحليل

تحديات سياسة القضاء على دور الصفيح بالمغرب

نادية البعون*

لم يتبق أمام الحكومة المغربية سوى بضعة أشهر للقضاء نهائيا على دور الصفيح بحلول سنة 2020، وذلك بعد مرور أكثر من عقد ونصف على إطلاق برنامج مدن بدون صفيح خلال سنة 2004، عبر تخصيص بقع أرضية للبناء الذاتي. وتجري هذه السياسة في ظل تحديات كبيرة قد تحجب حجم الإنجازات، والمجهودات الكبرى التي تبذلها الدولة في هذا المجال، والتي بوأتها الرتب المتقدمة عالميا في مجال محاربة دور الصفيح. وبعيدا عن الخوض في نقاش هل ستنجح الحكومة في القضاء نهائيا على دور الصفيح قبل مجيء سنة 2020، فلا بد من توضيح أهم تحديات هذه السياسة.

قد تمثل أهم تحد في التأخر الكبير لتدخل الدولة لحل مشكلة دور الصفيح، والذي لم يتم إلا في منتصف السبعينات، أمام قدم الظاهرة التي تعد من مخلفات الاستعمار، وهو ما ساهم في حدوث تراكم في دور الصفيح بسبب النمو الديمغرافي والتكدس الكبير داخل المدن. ولا زال أهم تحد تواجهه الدولة يتمثل في نفاذ الوعاء العقاري، وضعف مساهمة السكن الاجتماعي، وعدم تفضيله من طرف الأسر التي تفضل الاستفادة من البقع الأرضية من أجل البناء الذاتي. وتستمر جهود الدولة في القضاء على دور الصفيح في ظل تنامي الطلب الاجتماعي على السكن، والذي أبرز سلوك الاحتجاج.

أولا: تأخر تدخل الدولة أمام قدم الظاهرة

يشكل قدم ظاهرة دور الصفيح بالمغرب، وتأخر تدخل الدولة أهم عامل مفسر لتراكمها. فبحسب السوسيولوجي المغربي، محسن الأحمدي، تعد الظاهرة من مخلفات الاستعمار، حيث ظهرت هذه المساكن العشوائية في الدار البيضاء، ومكناس، والرباط، وفاس. وبحسب الباحث في تاريخ المغرب، نجيب تقي، ارتبطت الكاريانات بمدينة الدار البيضاء بعد احتلالها سنة 1907، وتوافد عدد كبير من المهاجرين من مختلف الجهات، بالأخص من أوروبا واستقرارهم في المدينة، وبحكم أن المستعمر أقام مجموعة من الوحدات الصناعية، مثل معمل الجير والإسمنت ومركز توليد الطاقة الكهربائية، فقد بدأ المركز يستقطب المهاجرين من القرى، وسكان البيضاء وضواحيها، وهؤلاء بدؤوا يبحثون عن مكان يستقرون به، فبدؤا بالسكن التقليدي المعروف بالنوايل والخيام، ولكن شيئا فشيئا، بدؤوا يبدعون شكلا جديدا للمساكن، والمتمثل في البراكات، إذ كانوا يجمعون البراميل ويسطحونها ويجمعون الأعواد فيصنعون البراكات، وبشكل تدريجي تكون تجمع للبراكات أطلق عليه أولئك العمال إسم الكاريانات، لأنه بني بالقرب من المحاجر، أي الأماكن التي كانت تستخرج منها الحجارة، وصارت هذه التسمية شائعة في المغرب كله تقريبا على أي حي صفيحي…والتي تسمى في بعض المدن دواوير.

بعد ذلك، ظلت دور الصفيح تتمدد بفعل عامل التطور الديمغرافي والهجرة القروية إلى المدن مقابل غياب عرض كاف للاستجابة للطلبات في مجال السكن. فبحسب نجيب تقي، ظلت هذه الأحياء، مثل كاريان سنطرال تتمدد، وعرفت مجموعة من التحولات، إذ تحول كاريان سنطرال في ما بعد إلى الحي المحمدي، وظهرت بالموازاة معه كاريانات أخرى كإبن مسيك. إذ يعتبر ابن مسيك وسنطرال أكبر كاريانات الدار البيضاء، كما ظهر كاريان الدرب الجديد بطريق آزمور، وأصبح يسمى بالحي الحسني وباشكو وسيدي مومن. وهذه الكاريانات، وبالأخص كاريان سنطرال، كانت تستقطب المهاجرين، وخصوصا البدو ومن مختلف جهات المغرب.

وبحسب التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات برسم سنتي 2016 و2017، فقد أدى التطور الديمغرافي والهجرة القروية إلى المدن وسرعة النمو الحضري، إلى جانب غياب عرض كاف، ومتنوع من أجل الاستجابة للطلبات المختلفة في مجال السكن، إلى حدوث اختلال في سوق العقار بالمغرب. وقد أدى هذا الاختلال إلى ظهور وتطور أشكال مختلفة من السكن غير اللائق. مما زاد من حدة العجز المسجل في قطاع الإسكان وتفاقمه بسبب الطلبات المتزايدة التي لم تواكبها وتيرة الإنتاج في المجال السكني.

وبحسب جواب وزير إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة والذي تضمنه التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات 2016 و2017(الجزء الأول)، فقد أدى النمو الديمغرافي السريع الذي عرفه المغرب، وما صاحبه من تزايد في نسبة السكان الحضريين، إلى تحولات جذرية على مستوى الهياكل العقارية وتنظيم المجال في المغرب، مما أدى بدوره إلى عجز في الطاقة الاستيعابية السكنية لتلبية حاجيات السكن المتزايدة بصورة اضطر معها غالبية ذوي الدخل المحدود إلى الاستقرار بسكن غير لائق. وهذه العوامل وغيرها جعلت القطاع العقاري يظل موسوما بحدة الطلب على السكن، الشيء الذي نجم عنه عجز سكني متراكم وضعف التجهيز ببعض الأحياء.

وأمام هذه التراكمات، عمرت دور الصفيح طويلا في المغرب، فلم تنطلق عملية القضاء على دور الصفيح بالمغرب إلا بعد النصف الثاني من عقد السبعينات اعتمادا على المساعدات الخارجية بحسب التقرير الوطني حول السكان 2002. حيث تدخلت الدولة لفائدة الأسر ضعيفة الدخل، والتي تم تحديدها بالمجال الحضري في سكان أحياء الصفيح. إذ لم تهتم السياسة المتبعة قبل السبعينات بهؤلاء السكان الذين يتمركزون بالمدن الكبرى(الدار البيضاء، الرباط، …) مع عمليات فرز تسمح بإعادة إسكان أسر أحياء الصفيح القادرة على الأداء.

في هذا السياق، وبحسب التقرير الوطني حول السكان، فقد تميزت سنوات السبعينات بمراقبة صارمة لأحياء الصفيح بهاجس أمني أكثر منه عمراني. وبذلك، أصبحت عمليات احتواء سكان أحياء الصفيح تأتي في درجة ثانية. لكن، وجود إمكانية الدعم الأجينبي بهدف امتصاص أحياء الصفيح سمح ببروز بعض المشاريع. إذ أصبحت فكرة إعادة هيكلة أحياء الصفيح من الأولويات، تمشيا مع توصيات فانكوفر لسنة 1976. وهكذا تمكن تقنيو قطاع الإسكان من تقديم اقتراحات في هذا الاتجاه شريطة الحصول على دعم خارجي. وفي هذا الإطار، استفادت أربعة مشاريع لإعادة الهيكلة من دعم مالي من طرف البنك الدولي، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.

وابتداءا من سنة 1981، تم التخلي عن عمليات إعادة الهيكلة لصالح حلول جذرية من نوع إعادة الإيواء. وقد تكثفت منذ بداية الثمانينات مراقبة أحياء الصفيح المعمول بها منذ السبعينات في إطار ضبط المجال الحضري. وبحسب عزيز خمليش، يظهر أن أحداث 1981، هي التي استقطبت بشكل كبير اهتمام السلطات الحاكمة، وجعلت تدخلاتها تتميز بالوضوح والسرعة في التنفيذ، وملامسة بعض القضايا التي لم تكن تحظى بالأولوية على مستوى برامج الدولة الأمنية والتنموية. وبالرغم من تركيزها على الإجراءات الأمنية (تقسيم الدار البيضاء إلى عدة عمالات، مضاعفة عدد المقاطعات والمراكز الأمنية…إلخ)، فإن التدابير الإصلاحية، خاصة على مستوى المجال الحضري للدار البيضاء، كانت واضحة ومكثفة، فيما يتعلق بقطاع السكن(تنشيط برامج القضاء على مدن الصفيح، دراسة تصميم مديري جديد للمدينة، الاهتمام بتزيين المدينة وبالساحات الخضراء…إلخ).

وبحسب عبد الرحمان رشيق، كانت الدولة قبل إطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية قد نهجت سياسة مكثفة للسكن الاجتماعي، لصالح الأسر ضعيفة القدرة على الأداء (أحياء القصدير). وتعود هذه السياسة إلى بداية الثمانينات من القرن الماضين غير أن الأعمال الإرهابية ليوم 16 ماي 2003، بالدار البيضاء، أتاحت تعزيز، وعلى الأخص تسريع تدخل الدولة لبناء أكبر عدد من دور السكن الاقتصادي والاجتماعي، وذلك بالاستعانة بالشركات العقارية الخاصة. بحيث كان منفذو الأعمال الإرهابية يقطنون حي سيدي مومن، وهو حي قصدير كبير في الجنوب الشرقي للدار البيضاء.

ثانيا: ضعف مساهمة السكن الاجتماعي

بحسب تقرير المجلس الأعلى للحسابات، فرغم المساهمة الكبيرة لآليات إنتاج السكن الاجتماعي في الرفع من عرض السكن، وذلك من حيث تسريع وتيرة الإنتاج، وبالتالي الرفع من كمية المساكن المحدثة، فإن هذا الإنتاج لم تستفد منه الأسر التي تدخل في إحصائيات العجز السكني إلا جزئيا، ولا سيما تلك التي تعيش في دور الصفيح. حيث أن الإنجازات التي حققتها هذه الآليات من حيث الإسهام في خفض العجز السكني لا تبدو في مستوى الجهود المبذولة. فبخصوص المنتوج السكني المحددة قيمته في 140 ألف درهم، ومن بين 21.006 وحدة منجزة إلى متم سنة 2016، تم تخصيص 6.020 وحدة فقط لبرنامج “مدن بدون صفيح”، أما فيما يخص المنتوج المحددة قيمته في 250 ألف درهم، فإن مساهمته في هذا البرنامج تبقى هزيلة. حيث تم تخصيص 494 وحدة لصالح برنامج “مدن بدون صفيح”، وهو ما يعادل0,17% .

هذا في الوقت الذي نص فيه قانون المالية لسنة 2008، على أن صنف المنتوج السكني بقيمة 140 ألف درهم مخصص للفئات التي لا تملك شقة في الجماعة المعنية، والتي لا يتجاوز دخلها الشهري مرة ونصف الحد الأدنى للأجور(الذي تم رفعه إلى مرتين من الحد الأدنى للأجور). وفي هذا الإطار، جاءت دورية وزير السكنى رقم 10247 حول تسويق وحدات السكن ذي القيمة العقارية المنخفضة بتاريخ 8 يونيو 2009، لتحديد شروط بيع هذا المنتوج لفائدة أربع فئات من المستفيدين، منهم ساكنة أحياء الصفيح المعنية ببرنامج إعادة الإسكان.

ثالثا: نذرة الوعاء العقاري

بحسب التقرير الوطني حول السكان 2002،حال ضعف الوعاء العقاري دون تحقيق المشاريع والأهداف المسطرة. وهو ضعف يعود إلى فترة الثمانينات والتسعينات. إذ تميزت الفترة الممتدة من سنة 1983 إلى 1991، بمناخ اقتصادي غير ملائم، تمثل أساسا في توالي سنوات الجفاف(1982- 1985) وتزايد المديونية الخارجية، الشيء الذي أرغم الدولة على وضع سياسة التقويم الهيكلي التي أوصت بها المؤسسات المالية الدولية. ولم تستطع السوق العقارية أن تتلاءم مع التوجه العام للاقتصاد المتأزم، إلا أنها عرفت تطورا إيجابيا، تمثل ليس في ارتفاع الإنتاج العمومي للسكن فحسب، بل أيضا في تسهيل عمليات القضاء على أحياء الصفيح. وابتداءا من سنة 1981، تم التخلي عن عمليات إعادة الهيكلة لصالح حلول جذرية من نوع إعادة الإيواء. وقد تكثفت منذ بداية الثمانينات مراقبة أحياء الصفيح المعمول بها منذ السبعينات في إطار ضبط المجال الحضري.

بحسب نفس التقرير، فإن معظم أحياء الصفيح التي تكونت منذ عقدين أو ثلاثة عقود، تقع في مجالات مركزية ذات قيمة عقارية مهمة. ولقد جاءت الرغبة الواضحة للسلطات العمومية في القضاء على أحياء الصفيح من جهة، ورغبة المتدخلين العموميين(الوكالة الوطنية لمحاربة السكن غير اللائق، المؤسسة الجهوية للتهيئة والبناء، والشركة الوطنية للتجهيز والبناء) للقيام بهذا التدخل من جهة أخرى، كنتيجة لكون السوق العقارية تسمح بإيجاد عمليات مربحة تحقق التوازن الذي يساعد على تمويل القضاء على أحياء الصفيح(الجزء الآخر يتحمله قاطنو أحياء الصفيح).

وهكذا، سلمت البقع الأرضية لقاطني أحياء الصفيح بثمن أقل مما هو عليه بالسوق، وتمت تغطية الفرق، إما من خلال جزء من البرنامج نفسه، أو من خلال برنامج آخر، يستطيع المتدخل من خلاله تحقيق عملية مربحة، تسمح بتعويض الخسارة. وبالنسبة للمنعشين العموميين خاصة الوكالة الوطنية لمحاربة السكن غير اللائق، لا تشكل عملية القضاء على أحياء الصفيح أية خطورة. ومكنت وضعية السوق العقارية شريحة عريضة من قاطني أحياء الصفيح من إيجاد شريك، ليس فقط من أجل تسديد ثمن البقعة، ولكن أيضا لبناء الطابق السفلي للمسكن، مقابل استفادته من أحد الطوابق.

إلا أن الأوضاع العامة لم تعد تسمح بحل المشاكل الاقتصادية والسكنية في آن واحد لقاطني دور الصفيح، من خلال استفادتهم من قطع أرضية، ذلك أن نفاذ الاحتياط العقاري العمومي بالمدن الكبيرة، والتكلفة المرتفعة لنز ع ملكية أراضي الخواص، جعلا مبدأ الموازنة الذي يستند على تكلفة ضعيفة لاقتناء العقار، يتراجع تدريجيا. وتبعا لذلك، أصبح المتدخلون العموميون خلال نهاية الثمانينات، مضطرين لاقتناء أراضي الخواص بأثمان تقارب أثمان السوق. ذلك أن الملاكين العقاريين الذين لم يكن باستطاعتهم من قبل تلافي نزع ملكية أراضيهم، فقد تحملوا ذلك بشكل جبري. لكن عند نهاية الثمانينات، استطاع هؤلاء الاستماتة في الدفاع عن أراضيهم، إثر اللجوء إلى المحاكم. وبالتالي، الحصول على أثمان مرتفعة مقارنة بثمن السوق. وقد شلت هذه الوضعية المؤسسات العمومية وجعلت آليات الموازنة لفائدة قاطني دور الصفيح غير فعالة.

وظل دعم الدولة ومساهمة المستفيدين منذ بداية التسعينات، يشكلان المصدر الرئيسي لتمويل عمليات إعادة الإسكان. ونظرا لضعف هذا الدعم بسبب تقليص ميزانية القطاع، وعدم ضمان مساهمة المستفيدين، لتباين المستويات الاقتصادية لقاطني دور الصفيح، فلم ينفذ البرنامج إلا جزئيا وعلى مدى سبع سنوات.

وفي ظل هذه التحديات، تستمر جهود الدولة للقضاء على دور الصفيح أمام تنامي الطلب الاجتماعي و سلوك الاحتجاج. إذ تلتقي مشكلة ندرة العقار مع تنامي الطلب على الحق في السكن. فبحسب عبد الرحمان رشيق، فبداية من سنة 2003، سوف تزداد محاربة السكن غير الصحي والعشوائي كثافة. إذ تم إطلاق 96 مشروعا لبناء 265.000 سكن…وفي 2004، أنجز بناء 103.000 سكن، 27.000 وحدة منها أعيدت هيكلته. وهكذا أصبح السكن مطلبا اجتماعيا جديدا. إذ يحتل المرتبة الثانية من مراتب المطالب الحضرية.

*باحثة في العلوم السياسية بوحدة السوسيولوجيا السياسية بجامعة محمد الخامس الرباط