قضايا

اللغة والهوية بالمغرب.. جدل ثقافي سياسي في إصلاح التعليم

نزار الفراوي

يعكس المخاض الذي يعرفه مشروع القانون الإطار للتربية والتكوين الذي أحيل إلى البرلمان المغربي، بشأن تدريس بعض المواد العلمية باللغات الأجنبية (الفرنسية أساسا)، حقيقة أن الأمر أكثر من مجرد نقاش فني حول أحد مداخل تحسين جودة العملية التعليمية، بل يستدعي أشباح صدام الهوية التي لا ترقد إلا لتنبعث من جديد.

يقدم المغرب إجمالا نموذج بلد تعتبر فيه التعددية الثقافية واللغوية أمرا مجتمعيا قائما. وقد استطاعت النخبة السياسية المغربية أن تصوغ مقاربات توافقية، متفاوتة النجاحات، لتدبير هذه التعددية في إطار مشروع الدولة الوطنية لما بعد الاستقلال.

وكرس دستور 2011 ... هذه التعددية، التي مكنت أساسا من ترسيم الأمازيغية لغة وطنية، لكن الاستقطاب العروبي الفرانكوفوني لم يلبث أن استعر في سياق توالي مشاريع إصلاح التعليم.

بدا سريعا أن التدافع حول المحور اللغوي في المدرسة المغربية لن ينحصر في مقاربات تقنية عملية، بل سيحشد الاصطفافات التقليدية حول طبيعة المشروع المجتمعي والثقافي للأمة المغربية، بين "الحداثيين" و"المحافظين" (مع نسبية هذا التقسيم)، وهو أمر طبيعي، على اعتبار أن اللغة بالنسبة للكثيرين أكبر من مجرد أداة تعلم، بل هي عمق ثقافي، ورؤية للعالم والحياة، وركن مكين للهوية الفردية والجماعية. هكذا سيشعل المشروع حرب المواقع والأفكار بين نخبة قومية إسلامية وأخرى فرنكوفونية علمانية.

والواقع أنه منذ صدور تقرير البنك الدولي الذي كان تبنى خلاصاته الملك الراحل الحسن الثاني في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، والذي أشار إلى عطب المنظومة التعليمية، وجدت المسألة اللغوية في صلب تجاذب مقاربات الإصلاح، حيث أوجزت بعض الأطراف أصول الأزمة في سياسة التعريب التي أقرت بداية الثمانينيات، بينما اعتبرت أخرى أنه لا يصح تحميل لغة التدريس مسؤولية الفشل في غياب مقومات الجودة والبيئة السليمة للعملية التعليمية ككل.

اللغة أداة تواصل وتعلم

بينما استفز المشروع اللغوي التعليمي أطرافا سياسية وثقافية وجمعوية، يرى نور الدين عيوش الناشط المدني، عراب الدعوة إلى التدريس بالعامية واللغات الأجنبية، أن التعديل لا علاقة له بإشكالية الهوية. التدريس بالفرنسية أو الإنجليزية لا يستهدف اللغة العربية، بل يجيب على أمر واقع يتمثل في قلة المراجع العلمية بالعربية، وفي المصاعب التي يواجهها الطلاب خريجو المدارس العمومية المغربية في مواصلة دراستهم العليا والاندماج في الحياة العملية، بالنظر إلى ضعف مهاراتهم اللغوية المطلوبة في سوق العولمة والمهن الجديدة.

يشدد عيوش على النأي بالمشروع عن تجاذب تيارات الهوية الثقافية واللغوية. يتعلق الأمر في نظره بإيجاد أجوبة عملية عن سؤال "أي مستقبل نريده لأبنائنا؟". أما اللغة في العملية التعليمية فهي مجرد أداة تعلم وتواصل.

وأبدى عيوش الذي كان قد أثار الجدل بتبني مؤسسته الأهلية لنداء اعتماد العامية لغة للتدريس بدل الفصحى، أسفه لكون بعض الأحزاب تحاول التعامل مع المسألة اللغوية في التعليم برؤية انتخابية وسياسية، موجها أصبع الاتهام بالأساس إلى حزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة، والذي يقف صف واسع من قياداته ضد مشروع اعتماد اللغات الأجنبية في تدريس المواد العملية بالصف الثانوي.

وطالب عيوش بالاستثمار في التكوين والتكوين المستمر للأساتذة مدرسي اللغة الفرنسية والإنجليزية، من خلال استدعاء بعثات أجنبية من المكونين، لأن مشروعا من هذا النوع يتوقف في نجاحه على تعبئة واسعة للموارد البشرية واللوجستية.

هوية وقيم

سريعا تحرك الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية الذي يضم شخصيات من تيارات ومشارب تجمعها مناهضة تقليص حضور العربية في التعليم والميادين الأخرى.

وتحدث رئيس الائتلاف فؤاد بوعلي في ندوة بالرباط عن معركة جديدة يخوضها حماة اللغة العربية، معتبرا أنه "بدل طرح نموذج تنموي وتعليمي أصيل يدفعنا إلى الأمام، ها نحن نجتر نفس الحديث، نفس المعركة"، وحذر من أن القانون المعروض على المؤسسة التشريعية يكتسي خطورة مفصلية. ذلك أن "لغة التدريس ليست آلة تواصلية، بل عنصر هوية ومنظومة قيم"، على خلاف قول عيوش.

وتعهد بوعلي بمقاومة هذا القانون سواء مر عبر البرلمان أم لم يمر، متحدثا عن "حرب فرضت علينا، تكرس الاستعمار اللغوي، وقدرنا أن نقاومه".

أما لماذا يفضل بعض دعاة العربية تعليم أبنائهم في البعثات الأجنبية أو القطاع الخاص، حيث الاهتمام أكبر باللغات الأجنبية؟، فيجيب عنه امحمد الهلالي رئيس المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة قائلا، بسؤال استنكاري "هل تم القيام بأي دراسة تثبت أن الأسباب التي تدفع أقل من 16% من المغاربة إلى هجر المدرسة العامة هو اللغة وليس التخريب الممنهج الذي تعرضت له المدرسة العمومية جراء السياسات المعتمدة طيلة أزيد من نصف قرن وهو تخريب قيمي وأخلاقي وقتل روح الإبداع لدى أساتذتها بتفقيرهم والحط من كرامتهم مما جعل المدرسة العمومية وكرا للعنف والمخدرات والسلوكيات المنحرفة".

تهميش اللغة الأم جناية ولكن..

يبدو أن الجدل الراهن وليد الغموض الذي لف إعلان الرؤية الإستراتيجية للتربية والتكوين التي قامت على هندسة لغوية ترتكز على "التعددية اللغوية" و"التناوب اللغوي". إن هذين المفهومين يوجدان على المحك. على هذا الصعيد، وبقراءة من خارج حدة الاستقطاب السياسي والأيديولوجي، يدعو الباحث السوسيولوجي عياد أبلال إلى التمييز بين تدريس اللغات ولغة التدريس.

فالانفتاح على اللغات الحيوية في ارتباطها بسوق اللغات مطلوب، خاصة على المستويين الاقتصادي والعلمي التكنولوجي، وهنا يجب منح الأولوية للإنجليزية، وليس الفرنسية في المقام الأول، لكن تهميش اللغة الأم، يرادف جناية هدم الهوية الوطنية والحكم على قدرة الشعب على ابتكار حلوله وثقافته وحضارته بالفشل.

وسجل الباحث أن البند المتعلق بتدريس العلوم في القانون المطروح ورد بشكل ملتبس ويخفي الكثير من الأمور، محذرا من أن ضرب اللغة الأم أمر خطير، ليستدرك قائلا "بمراعاة سوق اللغات وسوق الشغل وواقع جامعاتنا، فأعتقد أن تدريس المواد العلمية بالإنجليزية مع التفكير في إعداد مناهج لتدريسها بالعربية في السنوات الخمس المقبلة، مع دعم تدريس الإنجليزية منذ الابتدائي أمر محمود، خاصة وأن ترتيب الفرنسية الآن في سوق اللغات والبحث العلمي هو التاسع".

في المقابل، اعتبر أن تأهيل العربية علميا وتكنولوجيا مرتبط بتأهيلها تعليميا وثقافيا، دون السقوط في صراع هوية بخلفية دينية، ملاحظا أن الفرنسية من اللغات الحية التي لها وأهميتها الثقافية، خاصة أنها لغة ثقافة وفلسفة الأنوار وفكر النهضة، لكن "يجب أن تكون من ضمن روزنامة تدريس اللغات، لا أن تتحول إلى لغة التدريس، لأن كل الدول التي وجدت لها موطئ قدم في التكنولوجيا والتقدم اعتمدت لغتها الأم، ولنا في نمور آسيا خير دليل على ذلك".

من جهة أخرى، لم يستثن عياد أبلال حزب العدالة والتنمية من النقد، فهو يرى أن تركيز الحزب، ذي الاتجاه الإسلامي، على مسألة اللغة دون غيرها من قضايا مجانية التعليم وإصلاح المناهج والبنية التحتية للمدرسة المغربية والوضع الاعتباري لأسرة التعليم، يبرر الاستنتاج أن موقفه المتحفظ تجاه مسألة تدريس اللغات "ذريعة لجدل أيديولوجي يخدم فقط رؤيته الضيقة للإصلاح".

إصلاح التعليم في المغرب جدل متجدد، يبدأ في دائرة نخبة حكومية تشريعية، ثم يمتد ليشمل فئات مجتمعية واسعة.