قضايا

الدين والأخلاق

محمد بهضوض

في تدوينة له على جداره قال صديقي، المفكر الصوفي الجليل ، محمد التهامي الحراق، ما يلي: 

 

إذا كان الإلحاد في أبسط تعريفاته إنكارا لوجود الله، فثمة نوعان من الإلحاد على الأقل، إلحاد صريح  ظاهر، وهو إلحاد بالمقال، ويتباهى أصحابه بالإعلان عنه، وإلحادٌ باطن ضامر، وهو إلحاد بالحال، وإن كان أصحابه يرفعون شعار محاربته ومعاداة المجاهرين به.

والأخطر في الصنف الثاني ذاك الذي يلبسُ ثوبا دينيا مقدسا، بحيث يعلن صاحبه الإيمانَ ولا يتخلَّقُ بالأخلاق الإيمانية التي يوجبها إيمانه.... فإذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول مثلا: "لا يومن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه"؛ فما معنى أن يؤمنَ المؤمن باللهِ ولا تظهر عليهِ أماراتُ محبته لإخوته في الدين وفي الإنسانية؟ 

وما معنى أن يؤمنَ المؤمن باللهِ وينشر حوله الكراهية والبغضاء؟  وما معنى أن يؤمنَ المؤمن باللهِ ولا يكون نافعا لعياله؟ وما معنى أن يؤمنَ المؤمن باللهِ ثم يفسد في أرضهِ، ويؤذي خلقه ليستغني من مآسيهم وينهب جيوبهم ويمتص دماءهم....؟  وما معنى أن يؤمِنَ المؤمن باللهِ ولا يهتدي بهديهِ ويقتدي بنبيه؛ فلا يتواضع حين يتكبَّر غيرُه، ولايحلُم حين يغضب غيره، ولا يكرُم حين يشِحُّ غيره، ولا يُخْلِصُ حين يُرائي غيرُه، ولا يتقن حين يغش غيره...؟

ثم أليس من يتخلقُ بهذه الأخلاق الإيمانية/ الإنسانية مؤمنا بالحال وإن أنكر ذلك بالمقال؟؟؟؟...نعم يجد بعض علماء الكلام للمؤمن المخالف للأخلاق الإيمانيةِ صفة لا تخرجه من الملة،  ينعتونه بـ "المؤمن العاصي"، لكن بماذا سننعتُ الملحِدَ المتخلق بالأخلاق الإيمانية/ الإنسانية؟؟؟؟....ربما كان مؤمنا أخلاقيا وإن كان ملحدا عقديا...وربما وجب إخراج فكرنا الديني من سياج هذه الثنائيات نحو رحابةِ فهم آخرَ يستجيب لروح الدين ويتجاوزُ تصنيفاتنا التي ما تفتأ ينخرها الارتباك.

 

*****

 

فكان أن علقت على هذه التدوينة الهادفة هذه بما يلي:

ما قلته صديقي هو أكبر دليل على أنه لا علاقة ميكانيكية بين الدين والأخلاق. اذ كما يمكن أن يكون هناك دين دون أخلاق (وهو ما أعطيت أمثلة عنه) يمكن أن تكون هناك أخلاق دون دين (المنظومات الأخلاقية الآسيوية) كما يمكن أن يلتقي الدين مع الأخلاق، بهذه النسبة أو تلك، لدى هذا المؤمن أو ذاك.

لكن مع ضرورة الوعي دائما بالفرق بين ما نسميه دينا أو أخلاقا. حيث اذا كان الدين إيمانا و تعبدا،  فالأخلاق واجب وسلوك. واذا كان الدين مثلا عليا، فالأخلاق  واقع عملي. واذا كان الدين مسألة بين العبد وخالقه، فان الاخلاق بين الانسان والانسان، واذا كان الدين لله الكامل، فالأخلاق هي للإنسان  الناقص بالضرورة. وكما تقول العامة "الله يرحم ضعفنا".!

من هنا هذه الهوة  النسبية (التي قد تكبر أو تصغر)،  والتي  قد نجدها عند هذا الشخص أو ذاك، بين المثال والواقع،  بين ما يطمح أن يكون عليه وما يمارسه على أرض الواقع، بين ما تقوله تعاليم الدين أو التقاليد والاعراف التي يؤمن بها أو التي تحكمه، وما في استطاعته هو  كإنسان القيام به .

ومن هنا أيضا الفروق بين الناس:  اذ كما قد نجد مؤمنا متخلقا، قد نجد مؤمنا فاسدا.  والعكس، أي قد نجد ملحدا أو لا أدريا متخلقا يعمل الخير ولا يضر أحدا، كما قد نجد ملحدا أو لا أدريا غير متخلق أو فاسد، ضار لنفسه ومجتمعه. والأساس في كل ذلك هي التقوى، كما تقول  الآية " إن أكرمكم عند الله اتقاكم". 

ما يعني أن مسألة الاخلاق  تظل نسبية، كما قلت.  ولا ترتبط بالدين فحسب، حيث أن الفيصل بين القول والفعل أو المثال والواقع موجود في كل الأحوال، إذ ما فتى الإنسان يخلق له، حتى خارج الدين، مثلا عليا او "اصناما" حديثة مثل الحرية والعدالة والمساواة والتقدم والحقوق ...،  لا يستطيع الالتزام بها إلا نسبيا.

 

هذا ما انتبه إليه عدد من فقهاءنا وصوفيونا وانتقدوه منذ القديم باعتباره ضعفا او نفاقا أو مفسدة في الخلق. كما انتبه إليه نيتشه حديثا بنقده، من زاويته الفلسفية، لعبادة  الأصنام، القديمة منها والحديثة ، باعتبارها تلبيسا وخداعا، بله عدمية، ليس من شأنها خدمة الحياة أو الإنسانية في شيء.

في النهاية، أقول "هاتشي اللي عطا الله"،    ولو أراد ربك  لآمن كل من في الأرض واهتدى الناس جميعا إلى سواء السبيل. لكن لله في خلقه شؤون وحكمة، لعل أفضل ما عبر عنها جوابه العجيب في القرآن على الملائكة الذين نبهوه الى أن  الإنسان الذي استخلفه سيفسد في الأرض ويسفك الدماء فقال لهم: اني أعلم ما لا تعلمون!