رأي

خالد الخضري : أفلام مهرجان طنجة السينمائي في الميزان

 كما يحدث في معظم المهرجانات الوطنية والدولية، نجد أفلاما في المسابقة الرسمية تثير الدهشة والاستغراب من حيث المعايير التي اعتمدت عليها لجنة انتقاء الأفلام، فقررت برمجتها في المسابقة، علما بأن أقل ما يمكن أن توصف به أنها دون المستوى. بينما تجد أفلاما أخرى جيدة وجميلة قد برمجت في فقرات متنوعة خارج المسابقة!! الشيء الذي يطرح عدة أسئلة لا مجال للخوض فيها هنا. هذا ما حدث ويحدث حاليا في الدورة 20 للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة الذي انطلق يوم فاتح مارس الجاري ليستمر حتى التاسع منه. فضمن 20 فيلما روائيا المتبارية، لم يرشح المهرجانيون فيلما معينا جديرا بالجائزة الكبرى، فمعظم الأفلام المغربية الجديدة عادي بل كثير منها أقل من المتوسط الشيء الذي منعه حتى من برمجته في هذه الدورة.

 1 -  المنتج يغتني.. السيناريست يُهضم حقه.. والمركز السينمائي المغربي يتفرج!

ضمن العينة الأخيرة من الأفلام الضعيفة المستوى، الفيلم الذي كتبت سيناريوه أنا وأخي عبد الباسط الخضر بعنوان (التوفري) من إخراج مصطفى فاكر. وقد كنت متوقعا هذه النتيجة آملا ألا يرى النور أبدا زظرا لرداءته، لأنني حضرت جزءا كبيرا من تصويره وإنتاجه في ظروف جد سيئة لن تنعكس عليه طبعا إلا سلبا.. يكفي أن منتجه سعيد مرنيش أوطالب – صاحب شركة "مزودا فيزيون" بالدار البيضاء - لم يمكني حتى الآن ولا أخي من مستحقاتنا المادية ككاتبَيْ سيناريو.. كما ثلة من التقنيين والفنيين الذين اشتغلوا في هذا الفيلم الذي تم تصويره في نوفمبر 2017. ولم ينالوا درهما واحدا أيضا؟  رغم توصل المنتج بثلاث دفعات من منحة لجنة الدعم السينمائي المغربي كما من القناة التلفزيونية الأولى بما قدره 350 مليون سنتيما؟

وأمثال هذا المنتج الذين يلهفون عرق الناس كثيرون في السينما المغربية.. فيؤثر شحهم وابتزازهم لأموال الناس على الأفلام التي ينتجونها بشكل مباشر، في غياب عجز إن لم أقل تواطؤ بعض أطر المركز السينمائي المغربي مع هؤلاء المنتجين، حين يفرغون في حساباتهم البنكية أموال الدولة من منحة صندوق الدعم السينمائي المغربي شطرا وراء شطر، رغم شكايات المتضررين ومراسلة مدير المركز السينمائي في الموضوع. دون أن يتخذ هذا الأخير أي إجراء زجري ضد هذا المخرج أو ذاك...؟؟  بل لن أستغرب متى منحه حتى الشطر الرابع والأخير من المنحة أو الكعكة المذكورة، كما حدث معي شخصيا ولا زال يحدث...

2 – "رُحّل" فيلم ذو رسالة  

. بعكس أفلام أخرى لا تحصل على أي دعم مادي من المركز السينمائي المغربي، بل ويتم إنتاج عدد منها من طرف المخرجين أنفسهم، فتكون النتيجة مرضية بإثراء الخزانة السينمائية المغربية بفيلم أقل ما يوصف به أنه "نظيف" إن لم يكن ممتعا. فمن الأفلام الجميلة التي عرضت خارج المسابقة في هذا المهرجان والتي لم تستفذ من منحة لجنة الدعم السينمائي المغربي، فيلم: (رُحّل) NOMADESسيناريو إخراج الفرنسي أوليفييه كوسيماك.. وهو ذو إنتاج مغربي فرنسي مشترك ساهمت فيه إلى جانب شركتين فرنسيتين، شركة الإنتاج المغربية "أومان للإنتاج" لصاحبها الممثل والمخرج محمد نظيف الذي تكفل أيضا بمهمة منفذ الإنتاج... وقد صور برمته في المغرب ما بين مدينتي طنجة وتنغير حيث ورد بملخصه:

((من بين أبنائها الثلاثة الذين تولت عنايتهم بمفردها، لم يبق لنعيمة سوى واحد فقط.. فالأكبر غادر إلى فرنسا حيث دخل السجن.. والأوسط مات غرقا بينما كان يحاول الالتحاق به.. وعندما عبّر الحسين - أصغرهم سنا – عن رغبته في اتباع نفس الطريق، اختارت أمه أن تبعده عن طنجة في رحلة نحو الجنوب...)) من هذا الملخص تبدو التيمة الأساسية لهذا الفيلم، وهي تيمة اجتماعية وإنسانية تعالج التفكك العائلي في غياب رب الأسرة وتحمل الزوجة مسؤولية البيت ورعاية الأبناء في ظروف اجتماعية ضحلة وفي غياب عمل أو مهن محترمة وقارة بالنسبة لهم جميعا تقيهم نائبات الدهر.

 فالأم نعيمة كما ورد بالملخص، ستفقد ولديها تباعا والثالث في الطريق لو لم تهتد إلى حيلة السفر عند أختها بجنوب المغرب.. وهنا تواجهها أحداث ومشاكل لم تكن متوقعة، تنتهي بفرار الابن الأصغر عائدا لطنجة، فتلحق به الأم ليعودا معا. يضطر هو إلى الاشتغال كماسح أحذية.. دون أن تكل والدته عن طلب أي عمل وفي أي مجال كان – شريطة أن يكون حلالا ونظيفا – وفي حمى هذا البحث المستميت، وبدون سابق إعلام، يعود الابن البكر الحديث الانعتاق من السجن فتعم الفرحة البيت ويلتئم تصدعه بالتئام شمل الأسرة. وفي آخر لقطة يسأل الابن الصغير أمه عما وكيف سيفعلون لمواجهة الغد؟ ترد عليه وهي تضمه إلى أحد جانبيها بينما تضم الثاني في الجانب الآخر، وابتسامة أمل كما نظرة تحد وتفاؤل تشع من  عينيها:

- لا عليك.. غادين نقزوها بثلاثة.

وينتهي الفيلم بانفجارهم جميعا ضاحكين.. وهي حركة جد معبرة لا تحتاج لأي شرح أو تحليل.. تزكي الطرح الإنساني العميق لهذه الحالة الاجتماعية خالقة لدى المتلقي شعورا بالأمل والانعتاق.. كل هذا في فيلم يبدو بسيطا في كتابته السينمائية سيناريوها، إخراجا، أداء وتقنيات... لكنه عمل رزين يحتكم إلى قدر كبير من الحرفية وتحكم في إدارة الممثلين، الذين كان جلهم مغاربة أهم أبطاله شباب يقفون لأول مرة أمام الكاميرا: جميل الإدريسي، سعيد المختاري وحمزة القادري..  إلى جانب الفنانين المتمرسين: جليلة التلمسي (الأم) أسماء الحضرمي (شقيقته) محمد قطيب (زوج هذه الأخيرة) محمد نظيف (صاحب الدكان) ....

كما خلق المخرج توازنا جميلا بين ديكورين أو بالأحرى فضاءين مختلفين تماما ومتباعدين: طنجة بضجيجها وكثافة سكانها وسطوحها ودروبها الملتوية وعقباتها...ثم تنغير بشساعتها وبيوتها الطينية وواحاتها وكرومها ونخيلها وينابيعها المائية ... مع ما يعتمل بهذا الفضاء من هدوء.. وسكينة.. وتغريد العصافير.. كما صراصير الليل... بل حتى الصمت المطلق غذا لغة..

* ناقد سينمائي وسيناريست