عزيز لعويسي: نوستالجيا

لا يختلف إثنان في كون "العالم الافتراضي" أضحى ضيفا ثقيلا يصعب نكرانه أو تجاوزه لما يقدمه من إمكانيات هائلة للتواصل والبحث عن المعلومة وتقاسمها، في ظل عالم حولته تكنولوجيا الإعلام والاتصال إلى "قرية صغيرة" بلا حدود ولا قيود، وفي نفس الآن لا يختلف إثنان في كــون هذا "العالم الافتراضي" قد غير الكثير من السلوكات النفسية والاجتماعية في حياة الفرد، بل وأحدث ويحدث ثورة ناعمة في منظومة الأسرة التي ما فتئت تفقد الكثير من خصوصياتها وأدوارها التربوية وأجوائها الحميمية في ظل الحضور القوي للإنترنت والهواتف الذكية والحواسيب وغيرها في المشهد الأسري .

رحال "نوستالجيا الزمن الجميل" لابد أن تحط -أولا- عند "مؤسسة الأسرة" التي وقبل أن تغزوها "ثورة المعلوميات"، كانت تضطلع بمهامها التربوية كمؤسسة للتنشئة الاجتماعية وتحيط الأطفال بما يكفي من الرعاية والاهتمام والتتبع، في إطار أجواء حميمية تفاعلية مبنية على التواصل والاحترام ، وقد شكلت "المائدة" في ذاك الزمن الجميل، حجرة الزاوية في العلاقات الأسرية، لما كانت تقدمه من فرص للتلاقي وتقاسم أطراف الحديث وتمرير قيم المحبة والتآزر والتعاطف وتقوية الإحســاس بالانتماء إلى مؤسسة صغيرة (الأسرة) تلعب دور الموجه التربوي والضابط الأخلاقي، باعتبارها المؤسسة الأولى التي تحتضن الطفل، أما الأطفال/ التلاميذ فلم يكن هناك ما يزعج راحتهم أو يربك تفكيرهم ، لذلك كانت لهم علاقات قوية ب"الكتاب" الذي كان مؤنسهم وملاذهم الآمن في حياة مفعمة بالبساطة، جعلت معظم التلاميذ ينعمون بخيال واسع ويتملكون سلامة اللغة وقوة التعبير ومهارة الكتابة (شعر، نثر، قصة ...).

أما على مستوى التواصل ، فقد كانت للرسائل مكانتها الخاصة في ظل محدودية استعمال الهاتف ، باعتبارها القناة الميسرة والمتاحة للجميع ، للتواصل مع الأهل والأقارب والأصدقاء في الداخل كما في الخارج، لذلك فقد كان معظم الأشخاص المتمدرسين ، يتملكون مهارة تحرير الرسائل بكل ما تحمل من قدرات في ترجمة مشاعر الحب وترويض مفردات الأشواق وتحويلها إلى كلمات  وسطور.

أما اليوم، فقد تراجع دور الأسر في ظل الحضور القوي للإنترنت و"الحواسيب" و"الهواتف الذكية"، وداعبت البرودة العلاقات الأسرية بدرجات متفاوتة بين البرودة الأقرب إلى الدفء والبرودة القارسة ، وامتدت البرودة إلى "المائدة" التي كانت من قبل كالمدفئة التي يلتف حولها الجميع اقتناصا للحظات دافئة في ليلة قارسة، ودخلت جل الأسر إن لم نقل كلها في علاقات جديدة من سماتها البارزة "الفتور" في ظل امتدادات "العالم الافتراضي" الذي فرض علاقات ومفاهيم جديدة من عناوينها البارزة "العزلة " و"الانغلاق على الذات"، ففي كل "أسرة" يحضر الإنترنت الذي أضحى كالفتاة الحسناء التي تأسر العشاق وتجذب الولهانين من كل صوب واتجاه، وفي حالات كثيرة تجد الجميع محتضنا حاسوبه الشخصي أو هاتفه الذكي غارقا في عالمه الافتراضي، الأب في "ركن" من الصالون والأم في "ركن" آخر والإبن (ة) "منزوي" في غرفته الخاصة وكأنه في "مهمة خاصة"، بل وحتى الجلوس على مائدة الطعام، أصبح في كثير من الأحيان مستعصيا خاصة بالنسبة للطفل(ة) المنزوي في غرفته الخاصة الذي قد يسمح في الأكل بدل ترك هاتفه الذكي ولو إلى حيــن، بل أكثر من ذلك، أحيانا يتم التواصل والمناداة على الطفل المنزوي في غرفته  باستعمال رسائل قصيرة.

أما "التلاميذ" فلم يعد الكتاب مؤنسهم، بل أصبحوا أشد ارتباطا بالهواتف الذكية والحواسيب، كقنوات تمكنهم من الارتماء بشكل اعتباطي في حضن العالم الافتراضي، مما صنــع ويصنع تلميذا (ة) متهاونا واستهلاكيا يمسك الهاتف الذكي أكثر من مسكه للكتاب أو الدفتر ، وبحكم واقع الممارسة يتضح أن بعض التلاميذ والتلميذات لا يفتحون كتبهم الدراسية ودفاترهم إلا داخل الحصة الدراسية ، وهذا الواقع الجديد كرس الضعف والرداءة  والتهور والجنوح إلى العنف في ظل غياب الضابط الأسري والرادع المدرسي، بل أكثر من ذلك معظم التلاميذ لايجدون حرجا في التحوز بالهواتف الذكية أثناء الحصص الدراسية، وبعضهم يستغل الفرص السانحة، لالتقاط صور أو تسجيل مقاطع فيديو خاصة أثناء حوادث العنف المدرسي الممارس داخل الأقسام، ونشرها بمواقع التواصل الاجتماعي دون موافقة أصحابها، بكل ما يحمل هذا الفعل من تشهير وإساءة وإهانة ...

أما بخصوص "الرسائل المطولة" التي خيمت لسنوات، فقد أجهز عليها الهاتف الذكي والمواقع الاجتماعية (واتساب، فيسبوك ...) ، ورحلت  في صمت، ورحلت معها عبارات من قبيل "تحية طيبة وأشواق حارة،وبعد..."،"تحية طيبة ملؤها الحب والإخلاص،وبعد..." وحطت الرحال مكانها "رسائل قصيرة جدا" نمطيــة لا هي بالعربية ولا هي بالفرنسية، تنتقل ببــــــــرودة بين الأشخاص في أيام الجمعة والأعياد والمناسبات ... لتنحط اللغة ويتواضع الأسلوب...

أما "ساعي البريد" الذي اقترن إسمه لسنوات بالرسائل وما تحمله من أخبار وتحايا وأشواق ، فقد تراجع دوره وخفت بريقــه،إلى درجة لم يعد يذكر له ذكر  في عالم  غزته"التكنولوجيا" من كل صوب واتجاه ...

هي إذن، "نوستالجيا"تبدو اليوم كقناة فاصلة بين زمنين : زمن "أول" ولى وراح، لم ترحمه"التكنولوجيا" الناعمة، يبدو اليوم كمدينة شبح لم يتبق من رونقها وبهائها سوى الأطلال، وزمن "ثان" فرض واقعا جديدا لامناص اليوم من تقبله والتكيف مع معطياته بشكل واع ومسؤول ومتبصر...

-كاتب رأي.

Laaouissiaziz1@gmail.com