تحليل

القصيدة... قلق وأسئلة

جمال الموساوي

لمرة جديدة يكون علي أن أقول شيئا عن قصيدة تنسابُ منذ ثلاثين سنة. لا تتوقف إلا لتستأنف مجراها، مع التواءات الحياة ومطبات الطريق. هذه القصيدة هي الآن التي عليها أن تقول عني شيئا، أو هكذا أتصور. لقد أعطيتها مني الكثير كي يأتي اليوم الذي تقول لي فيه: اصمت أنت، إنني أتكلمُ.

هذه المقدمة جزء من حلمي الصغير. الصغير جدا. لقد جعلتني القصيدة، أنا الريفي البدوي البسيط، أجد لي طريقا في الحياة عبّدتها بنفسي. حفرتها حثيثا، ونثرت ُ غبارها وحصاها على الجنبات دون أن أستشير أحدا. كل ما هناك "انني أبصرت قدامي طريقا فمشيتُ". ولم أكن في حاجة إلى طرح كل تلك الأسئلة الأخرى التي جوابها دائما لست أدري. من أنا لولا هذه القصيدة كي أشغل أسماعكم الآن بهذا الكلام؟

من المثير حقا أن أستشعر في لحظة كهذه أهمية أن يكون المرء شاعرا. أهمية أن يسمح له الآخرون بفسحة كي يقول شيئا عن نهر يجري في قريته الخاصة منذ ثلاثين السنة. الآخرون الذين هم في الغالب أصدقائي. هل كانوا سيكونون أصدقائي لولا أن القصيدة كانت طريقي إليهم؟ الشعر إذن طريق إلى الناس. إلى محبتهم. تلك مهمة من مهام الشعر. أه صحيح. لقد أخرجني الشعر، جزئيا، من الظلّ وحملني إلى ساحة مزدحمة وألقى على اسمي الصغير بعض الضوء، وفتح الأبواب أمام الحلم الصغير لكي يكبر، تحتضنه الأيادي الطيبة وتسعفه بالعناية اللازمة. كان هذا الخروجُ من الظلّ إيذانا بأن للصدف في الحياة مكانها المحفوظ. الصدف التي تصنع المصائرَ، وتتركها للزمن كي يسير بها إلى مستقرها أو إلى لامستقر. المهم أن يسير بها وفي الطريقِ تقضم القصيدة ما يلزمُ كي تعيش. لقد احتاج الشعر احتياجا لم ينقطع إلى ما يغذيه من المعرفة. هل ينبغي في هذا المقام الحديث عما قرأت وما أقرا؟ ليس مهما، حتى لا أحمل قصيدتي ما لا تحتمل. قرأت كل ما استطعت الوصول إليه. جزئيا أو كليا. إذا كان الشعر نهرا يجري فالقراءات روافد وجداول منها يستمد الاستمرارية لمجراه، ومن خلالها يرقى فوق المطبات، ومنها أتشربُ الأخلاق التي تسمح للشاعر أن يكون جديرا بصفته. أخلاق الكتابة أقصدُ. تلك التي تجعل الإنسان ينظر إلى الحياة باعتبارها فضاء فيه متسعٌ للجميع، وأن الذات مهما تضخمت لا ينبغي لها أن تنفجر في الآخرينَ. الأخلاق التي تجعله، إن اقتضى الأمر يمد اليد لغيره كي يرتقي السلمّ متذكرا تلك الأيادي البيضاء التي امتدت إليه. الأخلاق التي تجعله يرى في اختلاف الرأي غنىً وفي النقاش والسجال مناسبة كي يتعلم أيضا.

إن كتابة الشعر، هي إبحارٌ في حياض المعرفة وبحث متواصل لنفض الغبار عن الكثير من قضايا الوجود بل عن كل القضايا. إبحار بدون مرفأ للوصول حيث الأسئلة تتناسل وتتجدد وتفتح المجال لأجوبة محتملة، متعددة ولكنها ليست نهائية. من هنا، يمكن أن أقول إنه إذا كانت البدايات هي نوع من التعبير عن وعي عاطفي تجاه الحياة، وهي حياة محدودة، حدودها الذات والأشخاص المحيطون بي وبعض القضايا، فإن المراحل التالية هي تعبير عن نوع آخر من الوعي العاطفي الممزوج قليلا ببعض توابل المعرفة. التوابل التي جعلت قصيدتي تمدّ أغصانها بشكل يتخطى الحياة الضيقة بانخراطها في أفق أكثر رحابة وفي قضايا كبرى تشعر بها الذات، مع مرور الوقت، ثقيلة وفوق طاقة التحمل. هذا الوعي الثاني هو الذي أقصى البدايات من "كتاب الظل". هذا الأخير كان مليئا بالإحالات والرموز مع غير قليل من الأسئلة والكثير من العناية باللغة والحرص على التفعيلة التي كنتُ أشعر وأنا أكتب بها بأنني أحقق رهانا صعبا، بتفكير ذلك الوقت.

مع تقدم المحاولة في السن، حتى لا أقول التجربة، انتقل الوعي بالكتابة إلى مستويات أخرى، لأن هناك علاقة ينبغي أن تتحقق بين عناصر عليها أن تتعايش. تلك حكمة التطور أيضا. حيت انتقلت الأسئلة المتعلقة بالذات في علاقتها بواقع المجتمع والتعبير عنها في قالب معين إلى إعادة النظر في الكيفية التي يجب التعبير بها. إن واقع المجتمع لا يغيره الشاعر، وإنما يفترض أن السياسي هو من يقوم بذلك بما تتيحه له الآليات الديمقراطية. هذا الوضع نفسه يولد أزمة وعيٍ عاجز. إذا كنت من خلال الشعر لا أستطيعُ مجابهة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للناس لأنني لا أملك الأدوات لذلك ، وإذا كان السياسي لا يستطيع لأنه لا يريد ذلك أو لأنه عاجز لسبب أو لآخر بالرغم من توفر الأدوات، فإن وعي الشاعر في هذه الحالة هو وعيٌ متأزم بحق ذلك أن "وعيا لا يكون مدعوما بقوة هو وعي لا فائدة منه" كما قال أحدهم وقرأته في مكان ما.

إنها المرحلة التي يمكن تسميتها بالخروج من قضايا الآخرين والانهمام أكثر بأشيائي الصغيرة أنا الكائن المنذور للزوال. أشيائي الصغيرة التي هي شظايا ما كان أشياء عامة وكبيرة، ذلك أن رهان الكتابة من الداخل أعمق وأقوى من الكتابة من الخارج. لقد تخلى الجميع عن دوره، فهل على الشاعر وحده أن يتقمصهم جميعا وينهض بأدوارهم دورا دورا؟ إنه السؤال المستحيلُ الذي يدفع الشاعر إلى الانفجار من اليأس والإحباط من خلال قصائد كل غاياتها تجديد أسئلة الوجود والمعنى وجدوى ما يفعل وجدواه هو نفسه وما هي إضافاته.

في هذا السياق جاء نوع من القطيعة مع "كتاب الظل" و"حدائق لم يشعلها أحد" حيث هذه الأخيرة بالرغم من أن نشرها كان في 2011 فهي الامتداد الشكلي والزمنى ل"كتاب الظل"، وإن كانت قد تخففت قليلا من زخم اللغة. لقد مثلت مجموعة "مدين للصدفة" (2007) منعطفا أعتبره هاما في نظرتي للشعر شكلا ومحتوى، واعتبرها نتيجة لتطور اللقاء بالمعرفة وارتقاء في الموقف والوعي بعلاقة الذات بنفسها وبمحيطها، وبداية لجعل القصيدة حاملا لفكرة ومعرفة قبل أن تكون انعكاسا، بالضرورة، لموقف مما يجري في الواقع، أو خطابا بأحلام طبقية أو ثورية. في هذه المجموعة حاورت هواجسي في الحياة أكثر. هواجس جيل كما أتصور، عاش خيبات متعددة وفرحا أقل. حاورت فيها ذاتي في علاقتها بتلك الهواجس، وعبرتُ عن حق هذه الذات في الفرح. وفي الألم. وفي الشك وعن الحق في إعادة تشكيل كل شيء بما في ذلك اختلاق وطن من الكلمات والإقامة فيه أمام استعصاء ذلك في الوطن المادي لأسباب اقتصادية واجتماعية وخطإ في السياسات العمومية. هذا النزوح الكتابي على مستويي الشكل والمحتوى كرس لدي فكرة عن القارئ جعلتني مع مرور الوقت أقتنع أن القارئ موجود شرط أن تكون القصيدة تعنيه بشكل ما.

أما لماذا تمثل "مدين للصدفة" منعطفا في تصوري؟ فلأنني أولا تخليتُ بشكل نهائي عن التفعيلة بما يعدّ اختيارا شكليا يروم الانخراط في الأفق العام للشعر الذي يكتبُ ليس في منطقتنا فقط، بل في كل مكان حيث يحتل النثر الحيز الأهم في المشهد، وثانيا لأنني صرت أكثر ميلا للتخلص من الصور التي يولد تركيبها غموضا بحيث يستعصي على المتلقي استيعابها والتفاعل معها، علما أن الغموض كان سمة من سمات الكثير من الشعر في العالم العربي خلال فترة طويلة، ويحتاج فكه إلى خلفية معرفية جيدة، وبالتالي كرس المنظور النخبوي للشعر وربما للثقافة بشكل عام بالنظر إلى عوائق اكتساب المعرفة والتسلح بها في منطقتنا، وهي عوائق كثيرة.

هذا التحول كان مسنودا أكثر بالانفتاح على عالم المعرفة الواسع من خلال التكنولوجيا التي أشرعت الباب بشكل نهائي للنهل من محيط لانهائي، وأخرجت ما كان محجوبا إلا على الخاصة أو على الباحثين المتخصصين الذين كانوا يتكبدون المشاق للحصول على الكتب والمراجع المتنوعة. إن انتشار المعرفة على هذا النحو يفرض حتى دون إرادة مسبقة أحيانا، التأملَ والتساؤل بما قد يفضي إلى إعادة النظر في الكثير من الأمور التي ربما كانت في حكم المسلمات التي لا يرقى إليها شك ولا تشكيك.

ولعل كتاباتي الأخيرة- وهنا لا أتحدث عن مجموعة غير منشورة بعد، عنوانها "أقدام بأثر قليل"، قد تصدر بين حين وآخر في القاهرة، وتعد امتدادا نوعا ما ل"مدين للصدفة"- تعلن عن هذا التحول وتؤكده، خاصة "أتعثر في الغيمة فتبكي"، والكتابات الأخرى بعدها. كتابات مليئة بالقلق والأسئلة والاحتفاء بالشك ومحاورة العالم في تشظيه وانهياراته ولكن أيضا في قياماته على اعتبار أن الأسئلة طريق لانهائية، وأنه مادام هناك أسئلة فإن الحياة ستستمرّ، لأن البحث عن الأجوبة لن يتوقف. بمعنى آخر كلما تقدمت المعرفة كلما مدد الإنسان عمر الإنسانية إلى أزمنة أخرى، ومن الجميل أن يساهم الشعر بنصيبه في ذلك. تلك فكرتي التي صارت عن الشعر. 

* سيرة القصيدة: شعراء يتحدثون عن تجربتهم الشعرية، من تنظيم بيت الشعر في المغرب، مكناس 21/10/2017