رأي

لحسن حداد: تعاقد من أجل المستقبل: نحو عقد اجتماعي جديد

لحسن  حداد: تعاقد من أجل المستقبل: نحو عقد اجتماعي جديد

مفهوم العقد الاجتماعي من توماس هوبس إلى جون راولز:

 ظهر مفهوم “العقد الاجتماعي” منذ القرن السادس عشر، وهيمن على فكر فلاسفة السياسة والحكم من أمثال توماس هوبس وجون لوك وجون جاك روسو وغيرهم. ويعني المفهوم تعاقدا ضمنيا بين أفراد المجتمع يتم بمقتضاه مقايضة شيء، مثل الحرية من طرف الأفراد، مقابل شيء آخر، الأمن والأمان من طرف الدولة مثلا. والمفهوم شكل قاعدة نظرية أساسية لفهم أصول الحكم، بل هناك من يرجع المفهوم إلى كتابات أفلاطون وأرسطو والماوردي وتوماس مور وابن خلدون وغيرهم، وهذا يعني أن فكرة التعاقد الذي يحدد طبيعة العلاقة بين الحاكمين والمحكومين طبعت الفكر الإنساني منذ القدم. ما يميز فكر هوبس ولوك وروسو عن غيرهم، حسب “الموسوعة البريطانية”، (“العقد الاجتماعي”، انسيكلوبيديا بريطانيكا) هو “محاولتهم تبربر السلطة السياسية على أسس المصلحة الفردية والموافقة العقلانية”، أي أنهم حاولوا التقعيد لمتى يكون “الحكم” في صالح الفرد ومتى يقبل الأفراد بهذا “كواجب ملزم.” ولكن الفلاسفة الثلاثة يختلفون حسب إن كان هدفهم تبربر نظام الحكم أو حماية الأفراد (نفس المرجع). يقول هوبز بأن الطبيعة البدائية كانت قاسية وفوضوية تطبعها حالة الحرب الدائمة، لهذا توافق الأفراد وأسندوا أمرهم لحاكم مستبد يسلب حريتهم ولكنه يحميهم من الفوضى والحرب (“الليفياثان”، 1651). من جانبه، يقول لوك (في كتابه “رسالتان في الحكم” 1690) إن طبيعة الأشياء تقتضي حقوقا طبيعية وجب المحافظة عليها ضد اللاأمن؛ لهذا فطاعة الحكم المدني هو جزء من عقد اجتماعي، مقابله هو “حماية الأفراد والملكية الخاصة” و”إذا خرق حاكم هذا العقد وجب الإطاحة به” (الموسوعة البريطانية). هكذا فبينما يبني هوبز نظريته على ضرورة تجاوز الفوضى البدائية عن طريق مقايضة الحرية بالأمن والاستقرار، فإن لوك يعتبر أن للإنسان حقوقا طبيعية وفطرية وجب الحفاظ عليها عن طريق اختيار حاكم يحقق الأمن والعدل مقابل طاعة الناس له. من جانبه يقول روسو في “في العقد الاجتماعي أو مبادئ في القانون السياسي” (1762) إن الإنسان كان يعيش على الفطرة وسط الطبيعة ولم يكن متطورا على مستوى “كفاءاته العقلية والشعور بالمسؤولية والوازع الأخلاقي” (الموسوعة البريطانية). ولكن حين قرر الأفراد أن “يتخلوا عن حريتهم ويؤسسوا للدولة والقانون من أجل ضمان الأمن والحماية، فإنهم اكتسبوا الشعور بضرورة التحلي بالأخلاق والمواطنة” (نفس المرجع). ما هو مهم بالنسبة لروسو هو الجانب الأخلاقي، أي أن أساس الحكم هو الأخلاق، أي رغبة المحكوم الامتثال لقرار الحاكم لأنه يرى فيه حفظا للأمن والطمأنينة. العقد تعاقد أخلاقي أولا ومواطناتي ثانيا، ولكن الأساس هو المرور من الطبيعة والفطرة إلى القاعدة والأخلاق. وجد ماركس وانجلز في نظرية العقد الاجتماعي، خصوصا لدى لوك وروسو، مصدرا للفكر الطوباوي الذي يقول بديمقراطية مباشرة غير مبنية على المصلحة الفردية؛ ولكنهما في نفس الوقت، نظرا إليها كمحاولة بورجوازية يائسة للتوفيق بين مصلحة ذوي النفوذ من جهة والشعب من جهة أخرى (جيمس شتيربا، “المعضلة/المفارقة الماركسية فيما يخص نظرية العقد الاجتماعي”، “المجلة الفصلية الفلسفية الأمريكية” 1982.) من وجهة نظر الفكر الماركسي، لا يمكن الحديث عن تعاقد إن تبوأت البروليتاريا دورها التاريخي واستولت على وسائل الإنتاج وقضت على نمط الإنتاج الرأسمالي. وكأني بهما يستعملان روسو ولوك فقط للتدليل على وجوب الرجوع إلى المرحلة البدائية، أي مرحلة ما قبل العقد الاجتماعي، كممارسة لنمط طبيعي في الإنتاج. الاختلاف جدري بين روسو وماركس: الأول يرى في الانتقال إلى العقد تنام للشعور بالوازع الأخلاقي، والثاني (بمعية إنجلز) يرى في الرجوع إلى الطوباوية البدائية أعلى قمة الأخلاق (فريدريش إنجلز، “أصول العائلة، والملكية الخاصة، والدولة” 1884.) يعتبر جون راولز أكبر فيلسوف في القرن العشرين استعمل مفهوم “العقد الاجتماعي” من أجل التقعيد للوصول إلى “المجتمع العادل.” في كتابه، “نظرية العدالة” (1971) ينتقد راولز النزعة النفعية والتي تعتبر أن العدالة “هي ما يقدم أكبر منفعة لأكبر عدد من الناس” (“ملخص عن نظرية العدل،” مقالات انجليزية) ويقول إنه إن تم تخيل إنسان (نظري) ولكنه يرتدي، ما سماه، “حجاب الجهل”، وطلب منه أن يرسم “مجتمعا عادلا دون معرفة موقعه فيه” (نفس المرجع) فإنه سيرسم مجتمعا عادلا تجاه من هم في أسفل السلم التراتبي، خوفا من أن يصبح يوما ما هو نفسه في هذا المستوى المتدني اجتماعيا. هذا هو أساس العقد الاجتماعي حسب راولز: “ما يضمن المجتمع العادل دون التضحية بسعادة أو حرية أي فرد من الأفراد.” همّ راولز هو التوفيق بين مبدأ “الحرية” الذي على أساسه تكونت المجتمعات الرأسمالية الغربية (حسب المبدأ التحرري) ومبدأ “العدل” والذي هو أساس فلسفات العدالة الاجتماعية التي تطورت في القرنين التاسع عشر والعشرين. تلازم هذين المقولتين في الفكر السياسي والممارسة السياسية للقرن العشرين جعلت المفكرين تائهين بين مستلزمات العدل في زمن سيادة الحرية. راولز اقترح الحل في إطار عقد اجتماعي ممكن على الأقل نظريا وفلسفيا.

نظريات العقد الاجتماعي لدى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي:

 أعاد راولز ومفكرون كثيرون من بعده أمثال أمارتيا سين، الاعتبار لنظرية “العقد الاجتماعي” في الفلسفة الاجتماعية والفكر التنموي على المستوى الدولي. الأزمات الاقتصادية المتوالية في العقدين الأخيرين وثورات وحروب الربيع العربي، ونمو الشعبوية وظهور النزعات الحمائية والهجوم على العولمة، كلها عجلت بظهور مطالب بضرورة سن عقد اجتماعي جديد. في 2015 أصدر فرع شمال إفريقيا والشرق الأوسط للبنك الدولي تقريرا سماه “نحو عقد اجتماعي جديد” ينطلق من كون أن دول المنطقة اعتمدت، رغم اختلاف اقتصادياتها بين دول مصدرة ودول مستوردة للبترول، “نموذجا تنمويا واحدا” يتمثل في كون الدولة هي “من يمول التربية والصحة، وتدعم المواد الأساسية والمحروقات”، وهي كذلك مصدر أكبر عدد من مناصب الشغل. مقابل ذلك، نجد مشاركة متدنية للمواطنين في تدبير الشأن العام، وتلجيم نسبي للحريات ضمانا للأمن، أمن الدولة والمواطنين. حقق هذا العقد نجاحات اقتصادية واجتماعية مهمة في المنطقة العربية حيث أنه في سنة 2000 “تراجعت نسبة الفقر، وأكمل كل الأطفال دراستهم الابتدائية” وارتفعت نسبة الولوج إلى الإعدادي والثانوي والجامعة. ولكن مع نهاية عشرية “الألفين” بدأت مظاهر تفككه تظهر جليا إلى السطح حيث ارتفعت مديونيات الخزينة نتيجة ضغط الفاتورة الاجتماعية وفاتورة دعم المواد الاستهلاكية، خصوصا في ظل الأزمة الاقتصادية وارتفاع أسعار المحروقات والمواد الغذائية على المستوى الدولي (نفس المرجع). لم يعد القطاع العام قادرا على تشغيل العاطلين و”لم يتطور القطاع الخاص” بشكل يجعله يعوض الخصاص في فرص الشغل (نفس المرجع). ورغم استمرار الاستثمار في التعليم والصحة فإن إصلاح هذين لا زال يعرف تعثرات كبرى خصوصا “على مستويات الإنصاف والجودة” (نفس المرجع). هكذا، “فالعقد الاجتماعي الحالي لم يعد صالحا لحاجيات الجيل الحالي”، حسب كتاب التقرير. عوض ذلك يقترح هؤلاء عقدا اجتماعيا جديدا مبنيا على تشجيع التنافسية في القطاع الخاص بدل التعويل على الدولة كمصدر للشغل، والتخلي عن دعم المواد الأساسية والمرور إلى نظام التحويلات المباشرة للفقراء. أضف إلى هذا “ضرورة إسماع صوت المواطن وبناء ثقته” (نفس المرجع). قد يبدو هذا وصفة جديدة لنموذج جديد للتنمية أكثر منه عقدا اجتماعيا ولكنه يحمل في طياته وصفا مبطنا لما قد تحصل عليه الأنظمة العربية وهو الاستقرار والمشروعية السياسية في زمن الثورات والحروب. في مقال مطول نشر في بداية دجنبر 2018 على موقع صندوق النقد الدولي من طرف نعمت شفيق، رئيسة مدرسة لندن للاقتصاد والنائبة السابقة لرئيس بنك انجلترا وصندوق النقد والبنك الدولي، ومعنون “عقد اجتماعي جديد: كيف نواجه الخوف من التكنولوجيا والعولمة عبر إعادة النظر في حقوق وواجبات المواطنة” (مجلة صندوق النقد الدولي للمال والتنمية، دجنبر، 2018) تحلل الكاتبة ملابسات “فشل العقد الاجتماعي الحالي في تدبير نتائج العولمة والتطورات التكنولوجية”. تقول شفيق “إن تقدم النمط الآلي في الإنتاج” أدى إلى هبوط صاروخي في قابلية التشغيل لدى جزء كبير من العمال ذوي الكفاءات المتدنية وسيؤدي إلى شرخ كبير في سوق الشغل “لصالح من هم أكثر تكوينا”، تضيف شفيق أن أنظمة الحماية الاجتماعية في الولايات المتحدة وفرنسا (“سياسات إعادة التوزيع”) مكنت من حماية الأسر ذات الدخل المحدود ولكنها أثقلت كاهل الحكومات بالديون. أضف إلى هذا أن الكل يساهم عبر أداء الضرائب حين يتوفرون على شغل قار، والأغنياء يؤدون ضرائب أكثر ولكنهم “يعيشون أطول وهم بذلك يستفيدون أكثر من نظام المعاشات” وهذا من شأنه أن يخلخل المقولة الخاطئة، حسب شفيق، حول وجود “من يشتغل بجد” ومن هم عالة على الآخرين. أخيرا، تقول شفيق بأن “العالم يواجه تحديات كبيرة فيما يخص الإنصاف عبر الأجيال” حيث أنه كلما “ارتفع متوسط من يصوتون بسنة واحدة،” ترتفع في المقابل “الإنفاقات العمومية على التقاعد ب 0.5 في المائة”. لذا فعلى الشباب كذلك أن يتعبؤوا ويصوتوا ويشاركوا في العمليات الانتخابية لإسماع صوتهم وفرض آرائهم. لذا، تقول شفيق، وجب إعادة النظر في العقد الاجتماعي ووضع نظام جديد مبني على مبدأ “أداء الضرائب مقابل الخدمات” وإعادة النظر في كيفية تعامل المجتمعات مع قضايا المسنين والشباب والمرضى ومن هم في حالة إعاقة أو عوز مادي. إرفاق التحويلات للمحتاجين بشروط وكذا اشتراط التأمين كمقابل، وإعادة النظر في نظام الحماية الاجتماعية وتشجيع الأغنياء على استعمال الخدمات العمومية لضمان استمرار الحس التضامني و”ضمان الجودة”- هي كلها سياسات لا مفر منها لتجاوز الأزمة. من الضروري كذلك الحفاظ على “سياسات ما-قبل التوزيع (أي الاستثمار في التربية والخدمات والبنية التحتية في المناطق النائية والحدودية لدعم الإنتاجية)”. علينا أن نستثمر أكثر في قدرة التربية على ردم الهوية الاجتماعية، تقول شفيق: إن الدول التي لها “حركية اجتماعية متقدمة تنمو بسرعة أكثر لأنها تلائم الأشخاص بالوظائف المناسبة، وهي بذلك تساهم بشكل كبير في دعم الإنتاج.” بمقتضى هذا العقد الاجتماعي الجديد، يجب إعطاء الشباب “استحقاقات (مالية) لكي يطوروا كفاياتهم” وهو استثمار في المستقبل “لأنهم سيؤدون ضرائب من بعد ستساهم في تمويل العناية بالمسنين” (شفيق). من جانب آخر، يجب وضع حدود دنيا لانخفاض الأجور “عبر دعم الأجور الدنيا” ومنح امتيازات ضريبية فيما يخص الدخل و”الرفع من الحد الأدنى للأجور”، بالإضافة إلى ضمان الولوج المجاني للصحة والتعليم وذلك للمحافظة على مستويات معقولة من العيش للجميع. يجب كذلك سن سياسات ناجعة لضمان تحول سليم وملائم فيما يخص التشغيل وذلك للتأقلم مع نمط الإنتاج الآلي والرقمنة وذلك عبر التكوين وإعادة التكوين ورصد الفرص التي تتيحها المكننة والرقمنة، وعبر تمكين العمال العرضيين من التغطية والحماية الاجتماعية. أخيرا، يجب إعادة التوازن في الدخل ليتحمل الرأسمال جزءا كبيرا من العبء وذلك “عبر حذف السياسات التي تستهدف تضريب التشغيل بشكل كبير”، وعبر تضريب “الرأسمال في المكان الذي يحصل فيه النشاط الاقتصادي” (نفس المرجع) لمواجهة التهرب الضريبي واللجوء إلى الملاذات الضريبية.

 أي عقد اجتماعي لمغرب الغد؟:

 كل هذه القضايا التي أصبحت تشغل بال منظري التنمية على مستوى المؤسسات الدولية ليست بعيدة عما نناقشه في المغرب في الوقت الحالي. هل سبب أزمة النموذج التنموي الحالي واستنفاذه لإمكانياته يرجع إلى أن العقد الاجتماعي الحالي صار متجاوزا وربما لا يتجاوب مع طموحات الأجيال الراهنة؟ هذا ليس فقط أمر متأكد منه ولكن غياب الثقة في السياسة وفي مؤسسات الدولة يرجع إلى تراجع الكثير من فئات الشعب عن مضامين العقد المضمر والذي تمت صياغته بعد الاستقلال وتمت إعادة إنتاجه في حلة جديدة في “العهد الجديد”. يمكن تلخيص تطور التنمية تاريخيا في المغرب منذ الاستقلال في عقدين اجتماعيين متواليين، تم بناء الثاني على أسس الأول، في الوقت نفسه الذي يحمل الثاني في طياته نقدا تارة عميقا وتارة أقل عمقا للأول. العقد الاجتماعي الأول والذي تم وضعه في فترة ما بعد الاستقلال بني على أساس الدور المحوري للدولة في تنظيم التزود بالخدمات، من صحة وتربية وولوج للخدمات الأساسية، وكونها هي المشغل الأساسي نظرا لاحتكارها لوسائل الإنتاج، خصوصا الشركات والمؤسسات العمومية. من جانب آخر، تدخلت الدولة لدعم المواد الغذائية والمحروقات ووضعت أنظمة محدودة للحماية الاجتماعية. مقابل ذلك تم فرض المقاربة الأمنية الشاملة في بعض الأحيان، وحالة الاستثناء حينما اقتضى الأمر ذلك وتم تغييب صوت المواطن وتلجيم الأصوات المعارضة. مضامين العقد هي تدخل الدولة كضامن لإعادة توزيع الثروات مقابل انخراط الجميع في مشروع سياسي قوامه تثبيت الملكية التنفيذية كقاعدة أساسية لأسلوب الحكم والحكامة في المغرب. بموجب هذا العقد استطاع المغرب أن يحافظ على استقرار نسبي (رغم أحداث 65 و71 و72 و73 و81 و84 و90) وأن يكون نخبة جديدة تكمنت المدرسة العمومية من جلبها من مختلف فئات المجتمع، وأن يؤسس لإدارة مركزية قوية وإدارة ترابية متمرسة، وأن يحافظ على توازنات اجتماعية نسبيا متماسكة (رغم هشاشة بعض الطبقات). ولكن “دولة الرفاه” هذه (رغم إخفاقاتها) كانت لها فاتورة مرتفعة. الولوج المفتوح للخدمة العمومية، ودعم المواد الاستهلاكية في فترات تضخم الأسعار، والزيادة في الأجور لامتصاص غضب الشارع والنقابات أدى إلى استنزاف موارد الخزينة. وجود نخب موالية أعطى للنظام كوادر قادرة على الدفاع السياسي عنه ولكن كونها تنحدر من طبقات تعيش على الريع وغير منتجة فوت على الاقتصاد الوطني إمكانية التطور وربح موارد جديدة لتمويل الفاتورة الاجتماعية. نمو طبقة تستفيد من الامتيازات دون إنتاج ذي قيمة مضافة عليا وتوالي المطالب الاجتماعية وتضخم الإدارة أدى إلى ارتفاع حجم الدين الخارجي واقتراب الخزينة من الإفلاس. ضحى التقويم الهيكلي رغم إيجابياته الماكرو اقتصادية بالجانب الاجتماعي، من تربية وولوج للخدمات، ووضع سقفا للتوظيف وعطل التطور الطبيعي للأجور وجمد مسلسل الحماية الاجتماعية والولوج للخدمات. “السكتة القلبية” الموقوتة التي أنذر بها الحسن الثاني في 1995 كانت إعلانا لوصول العقد الاجتماعي-لما-بعد-الاستقلال الباب المسدود. العقد الثاني الذي تم تبنيه إبان العهد الجديد هو إعادة إنتاج متطورة للعقد الأول. وتنبني هذه النسخة على محاربة الفقر، واستهداف تدريجي للطبقات الدنيا، ورفع الدعم عن المواد الاستهلاكية والمحروقات، وتوسيع شبكات الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية ودعم الولوج للخدمات الأساسية، وكل هذا مقابل الإجماع حول الثوابت وتوجه متأني نحو دمقرطة تدريجية (رغم نواقصها العديدة) وتشاركية في اتخاذ القرار السياسي. كانت لهذا العقد نتائج محمودة تمثلت في التقليص من الفقر، وخفض معدل البطالة، وتوسيع الطبقة الوسطى. ولكنه في نفس الوقت لم يوجد حلا لمعضلة بطالة الشباب، خصوصا حاملي الشهادات، ولم يساهم في الرفع من دخل الطبقة الوسطى الناشئة ذات الانتظارات المتنامية، ولم يضمن ولوجا نوعيا للتربية والصحة والخدمات الأساسية. بل أن انتظارات الطبقات الوسطى والشباب نمت في زمن طفت فيه إلى الوجود فئة ميسورة استفادت من الخوصصة والامتيازات التي منحت للمستثمرين في العقار والصناعة الغذائية والفلاحة والطاقة والتيليكوم بدت وكأنها مجموعات ولوبيات متحكمة في التوزيع اللاعادل للثروة ومساهمة في تنامي الفساد وغياب الشفافية في الصفقات العمومية. عرف هذا العقد أزمته الأولى مع توالي ثورات الربيع العربي حين خرجت أصوات للشارع تنادي بالقطع مع الفساد واللوبيات الاقتصادية الجديدة وما سمي بالتحكم والدولة العميقة. أعطى الدستور الجديد لـ 2011 بعض النفس للإصلاح وللعقد الاجتماعي المتجدد ولكنه سرعان ما أبان عن محدوديته في امتصاص غضب الشارع خصوصا وأن مشاركة المواطن في التنمية وتجديد منظومة الحكامة والدمقرطة السياسية الفعلية ظلت أمورا مغيبة في ظل صراع مفتعل ضد الإسلاميين ومحاولة التراجع عن المكتسبات، وهما أمران أبعدا البلاد عن القضايا الجوهرية المتمثلة في النمو الاقتصادي وربح رهان التنمية البشرية وضمان مشاركة فعلية للمواطن في تدبير شؤونه على المستوى المحلي ودعم إعادة توزيع عادلة للثروة. حراك الريف وانتفاضات الجهات الهامشية والثورة الفايسبوكية ضد النخب ورموز الدولة دشنت لأزمة عميقة عبر عنها الملك محمد السادس بـ “أزمة النموذج التنموي الحالي”. هذا يتطلب من الفاعلين التفكير الجدي والناجع في عقد اجتماعي جديد ومتجدد. وهذا العقد لا بد أن يتضمن استهدافا ذكيا ومشروطا للفقراء يتضمن رفعا فعليا لقدراتهم وكفاياتهم ويكون كفيلا بإخراجهم من عتبة الفقر. إن غادر هؤلاء الفقر وصاروا منتجين سيساهمون في الدورة الاقتصادية وينتجون ثروة وضرائب وموارد تعوض ما يتم إنفاقه عبر التحويلات المباشرة المشروطة. ويجب أن يتضمن هذا العقد الجديد دعما قويا للطبقات الوسطى عبر الخفض من الضريبة على الدخل أو ميكانيزمات أخرى لدعم الحصول على السكن واقتناء السيارة وتسديد فاتورة التعليم الخصوصي وولوج الأبناء للجامعة وتمويل متطلبات السفر والترفيه. دعم قدرات الطبقة الوسطى سيرفع من قدرتها على الاستهلاك وهذا من شأنه أن يعطي دفعة قوية للاقتصاد ويساهم في الرفع من موارد الخزينة. دعم الطبقة الوسطى لا يعني الرفع من المستحقات وريع دولة الرفاه ولكنه استثمار في النمو الاقتصادي وخلق الثروة. يجب أن يشمل هذا العقد كذلك تحويلات نقدية مشروطة (مشروطة بالتكوين والتعلم وصقل الكفايات) للشباب في الجامعة والشباب العاطل والشباب الذي يبحث عن شغل وقد يكون هذا الدعم على شكل منح وسلفات طويلة الأمد ووظائف مؤقتة وجوائز تفوق وغيرها تعطى للشباب الوسائل لصقل كفاءاته ومساعدته في الحصول على شغل و المساهمة في بناء ذاته ومستقبله. ضمان مشاركة المواطنين المباشرة في تدبير قضاياهم محليا أساسية كذلك لضمان تدبير أنجع لقضايا التنمية. وهذا يعني وضع ميكانيزمات للتأسيس للتتبع المواطناتي للمشاريع، ومساءلة المواطنين للمسؤولين والمنتخبين عبر جلسات عمومية، ووضع الآليات لتدبير الموارد المالية المحلية عبر استشارات شفافة وميزانيات مفتوحة يتم وضعها بمشاركة المجتمع المحلي والساكنة، ووضع أنظمة فعالة لتدبير الشكايات والتظلمات المتعلقة بالتنمية وتأثيرها على الساكنة. ولكن هذا كله لا يأتي إلا في إطار دمقرطة متدرجة ولكن حقيقية ودون الخروج عن التوابث. حين نتحدث عن المسؤولية والمحاسبة يجب أن نعطيها المعنى الحقيقي المتمثل في اختيار من يسير عبر صناديق الاقتراع ومحاسبته عن طريق البرلمان ومؤسسات المراقبة وكذا الانتخابات ولكن شريطة وضع جميع الموارد رهن إشارته وإعطائه سلطة اتخاذ القرار. لا محاسبة في غياب الموارد وعدم وجود سلطة حقيقية لاتخاذ القرار. أخيرا، لا محيد عن ضمان إسماع صوت المواطن عبر ضمان حقه في النقد والتظاهر. كلما كان المواطن حرا، والصحافة مستقلة وناقدة، وكلما كان البرلمان قويا وله سلطة المحاسبة الحقيقية، وكلما كان المجتمع المدني ديمقراطيا ومعبئا، وكلما كانت النقابات مسؤولة وقوية وناقدة، وكلما كان القطاع الخاص واعيا بدوره الاقتصادي ومنظما تنظيما عصريا، كلما تقوى عود المجتمع والدولة. الدول تصبح ضعيفة حين يتم إضعاف أو إسكات أو التضييق على الأصوات المشاكسة والناقدة وتكون قوية بقوة معارضتها واستقلالية وقوة آراء من ينتقدون الحكومة والنظام. ثنائية الحقوق والواجبات أساسية لنجاح العقد الاجتماعي المنشود. شريطة أن نفهم أن غياب الوعي بالواجب لا يلغي إلزامية التمتع بالحقوق. الحق إلزامي ومشروع ويجب ضمانه وحمايته بسلطة القانون. ولكن الواجب ثقافة، وقيم يتم تنميتها عبر التوعية والتكوين. الحقوق مستحقات دستورية وكونية والواجبات ثقافة تكتسب. لهذا لا يجب مقايضة هذا بذاك. المجتمع الناجح هو الذي يضمن أبسط وكل الحقوق ويعمل جاهدا لنشر ثقافة المواطنة الحقة. وهذا غير مستحيل شريطة التحلي بالعزيمة والشجاعة وغرس بذور الأمل في مستقبل زاهر ومشرق.