قضايا

رسالة إلى علماء الإسلام

محمد سعيد

كل يوم أزداد اقتناعا بأن علماء الدين في المغرب ينبغي أن يكملوا تكوينهم الفقهي بتكوينات خاصة في العلوم الطبيعية والإنسانية.. تكوينات تمكنهم من فهم معنى الزلازل وكيف تحدث (حتى لا ينسبونها إلى غضب الله على الناس)، بمعنى اللغات الطبيعية ليفهموا معاني "اللغة الأم" و"اكتساب اللغة" (حتى لا يبنون تصوراتهم للغة الشعب على تصورات إيديولوجية بائدة)، ومعنى "الصحة الجنسية" ليفهموا معنى العلاقة الزوجية (حتى لا يشرعنون للناس استعمال الجزر في إطفاء الشبق).

أشجع رجال الدين من خلال هذا المقال عوض سباب صاحبه، بأن يقرؤوا عن المدارس الفكرية، بدءا بالمدرسة الوضعية، وما قدمه الفرنسي إميل دوركايم من أفكار حول أصل العقيدة الدينية ونشأتها. كما أشجع القيمين على الشأن الديني أن يلتزموا الموضوعية والحفاظ على المصداقية والابتعاد عن التبريرية في تقديمهم للرسالة التبشيرية المسيحية، فهذه الغايات لا يمكن أن تتأتى في مجتمع ما زالت فيه المدرسة جهازا إيديولوجيا للدولة، وأداة الهيمنة الاجتماعية لتبرير وشرعنة السيطرة والتفوق وإعادة إنتاج المنظومة الاجتماعية، القائمة على علاقات الهيمنَة والسيطرة الواضحة بين الطبقات التي تتباين بدرجات كبيرة بمستوياتها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، إلخ..، وكل هذه التصنيفات، وأخرى، تنطبق على مدرستنا..

عندما ننطلق من الدين فلا يمكن الحديث عن الحق في الاختلاف والتسامح، كل الديانات تدعي بأنها تملك الحقيقة المطلقة وهي الحق وما سواها باطل، يجب التفريق بين المسامحة والتسامح، المسامحة قد تحس بأن شيئاً من حقك وتتنازل للآخر عنه على الرغم من أحقيتك به، بينما التسامح هو قبول الآخر كيفما كان بغض النظر عن لغته أو عرقه أو ديانته أو غير ذلك من الاختلافات.. وجب احترام الإنسان وتقديره كيفما كان، ولا لإهانته أو احتقاره وهذا هو التسامح، وهذا لا يعني أنك لا تنتقدني أو لا أنتقدك؛ فالنقد يبدو ضرورياً لأي تجربة إنسانية بشرط أن يكون نقدا معرفياً وليس نقدا إيديولوجياً.. فإذا كان هناك عائق إبستمولوجي يتمثل في الرجوع إلى سلف ما، على الرغم من اختلافه، فهذا العائق لا يمكن الوقوف على حقيقته إلا بنقد معرفي، فلا توجد إمكانية للدفاع عن الحقيقة من خارج الخطاب الحجاجي.

هل يحتاج فقهاء المغرب إلى خطاب علم اليوم؟ هذا سؤال خطير، وقد يشكل مفترق الطرق الذي يفترق عنده اتجاهان في الحياة الدينية بالمغرب: خطاب العلم، وخطاب الجهل.

اقتنع الراحل الحسن الثاني في لحظة من لحظات حياته بأن الفلسفة وعلم الاجتماع (أو ربما العلوم الإنسانية بصفة عامة) مجرد مصدر للمشاكل، وبأنه يحتاج إلى مغاربة يصلون دون أن يشغلوا أنفسهم بالعلم والثقافة، اقتنع الحسن الثاني بأننا لا نحتاج إلى خطاب بقدر ما نحتاج إلى فلاح يعمل في أرضه بهدوء وخضوع.

هذه بالضبط هي فلسفة المستبدين، لا تفكر كثيرا، اعمل بهدوء وخضوع، لأن استمراري في السلطة (أو حصولي عليها) يحتاج إلى من يساعدني على ذلك بالعمل، إنها الوصية الحادية عشرة (بعد الوصايا العشر) "لا تفكر".

الأفضل لعلماء الدين أن يهتموا بالعلم التجريبي؛ لأن هذا الاهتمام سيمكنهم من فهم الخرافات الدينية التي يؤمنون بها.

القدماء كانوا يعرفون طرق فصل النفس عن الجسد، وبذلك كانوا يسافرون في عوالم أخرى ويلتقون مخلوقات أخرى، ولا يزال الأمر قائماً إلى اليوم بالنسبة إلى من يريد ذلك، ولو لم أكن من الذين يعرفون هذا الأمر لما كتبت هذا المقال الموجه إلى صانعي قيمنا اليوم؛ فاللعب والتلاعب بالمعتقدات ليس بالأمر الهين، لأنه مبني على التلاعب بعقول ومشاعر الناس وإخفاء الحقائق عنهم، أتذكر هنا الضجة التي أحدثتها بين طلبة وأساتذة الدراسات الإسلامية بكلية الآداب بالمحمدية سنة 1997 لما قلت: "أن الزوايا الدينية مجرد وهم ديني زائف"، ودليلي على ذلك هو ما قرأته عن بوعبيد الشرقي – فمن يكون هذا الشخص؟

بوعبيد الشرقي يتصل نسبه إلى عمر بن الخطاب، ثاني الخلفاء الراشدين، وهو مدلس ويدعي بأن له كرامات؛ منها: أن امرأة كانت واقفة على حافة بئر وهي تستقي منه، وكان ولدها فوق ظهرها، فانزلق الولد من الظهر، فسقط ففزعت أمه وصرخت للإغاثة، وكان بينها وبين مكان بوعبيد الشرقي مسافات بعيدة بأبي الجعد، فما أتمت صياحها إلا والولي تعرض للولد.

ومن كرامات بوعبيد الشرقي أكله لأفعى سامة في عهد أحمد المنصور، فلم يمت، إذ قيل إن الشيخ رفع الحية وبدأ يأكل فيها وهو ينظر، ويقال بأن الشيخ بوعبيد الشرقي بقيت رباعية أسنانه زرقاء من أثر السم. كما اشتهرت بركته بالشفاء من كل داء، حسب الروايات وحسب مريديه.

إننا نخاف من التفكير ونقاش مثل هاته الأساطير الدينية، سأسمي هذا الخوف "عقدة الخائفين"..أتذكر هنا رواية "العمى" للروائي البرتغالي "سارماغو"، التي تتكلم عن حياة العميان، إنها لحظة كفيلة بأن تكشف عن نسبية الكثير من المواقف والاعتقادات التي نعتقدها.. إنها اللحظة التي ستتطوع فيها السجينة الوحيدة في معسكر الاعتقال التي ما زالت تبصر لتطلب من الحراس الإذن لدفن الموتى..تقترب من البوابة الحديدية الضخمة، وتقف أسفل أبراج الحراسة، وتصرخ، لكنها تكتشف باندهاش أن الحراس رحلوا، وأن باب المعسكر مفتوح، وأن لا أحد يحرس العميان المساجين، فتصرخ بملء فيها "نحن أحرار"..

أنا شخصياً كنت أحد هؤلاء العميان أهيم في تراث كاذب، والآن أنا أبصر..

فلنثر إذن عن الكذب والدجل الديني وعن العمى الروحي.

فلنثر كما ثار أبو العلاء المعري عن العمى.

وختاما، أقول ما قاله الأعرابي بالبادية: بما عرفت ربك؟ فقال: الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟

*عضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث الإنسانية.