فن وإعلام

فيلم منزل الحقول ... صورة مقربة... التواضع طريق إلى جوهر الإنسان

عبد الله صرداوي

أصبحت المخرجة تالا حديد موضع اهتمام نقدي بعد فيلمها الروائي الطويل "إطار الليل"، مخرجة سينمائية تقودها حساسية واضحة للقيم الجمالية، من خلال نزعتها الأسلوبية في الشكل السينمائي الذي تريده وتدافع عنه، فيلم"منزل الحقول" هو تجربة أخرى مغايرة، فيلم وثائقي مدته 93 دقيقة، من إنتاج كيروا فيلم، سيناريو وإخراج وتصوير ومونتاج تالا حديد، صوت كل من تالا حديد وخديجة لكوناد والعربي المنصوري، وموسيقى ريشاردهروفيتز.

يسلط الفيلم الضوء على تفاصيل حياةأسرة صغيرة تعيش في قرية نائية في جبال الأطلس الكبير... يتتبع الفيلم تحديدا بعضا من حياة أختين، يرصد لنا همومهما وآمانيهما وأحلامهما، أكبرهما تستعد بدهشة لعقد قرانها دون الخروج على شكل الزواج التقليدي بالمنطقة، والأخت الصغرى تحلم بأن تصبح يوما ما محامية...

يبدو الفيلم من بدايته مؤثرا، وكأنه رحلة اكتشاف تظهر أحداث حال وقوعها، إذ تعلن المخرجة تالا حديد عن أسلوب مميز في تقديم دليل بصري ملموس ومقنع، دليل يتعارض بتاتا مع نوع الأفلام الوثائقية التي لا سند لها غير المقابلات والصور التوضيحية، صحيح أن المقابلات قد تيسر للمخرج أحيانا تحديد وجهة نظره، لكنها غالبا ما تطرح كاختيار مزعج ومشوش ومتعب في إيصال فكرة الفيلم، وهذا يبدو واضحا في الكثير من الأفلام الوثائقية التي تأتي متخمةبمقابلات لا تخدم الفكرة ولا تظهر لب الموضوع، وإنما تظهر أناسا يتحدثون حول الموضوع، في حين أن الفيلم الوثائقي يجب أن يستند إلى الصور.

هناك دائما إغراء قوي للتعويض عن نقص الدليل البصري بحشو الفيلم بمقاطع من مقابلات مع خبراء أو شهود أو بوضع شخص يتحدث أمام الكاميرا. ربما تضيف المقابلات شيئا مهما لمحتوى الفيلم الوثائقي، لكن الكلمات بغض النظر عن طريقة الكتابة، وبغض النظر عن البلاغة التي ستنطق بها، فهي في جميع الأحوال غير قادرة على صنع فيلم جيد. وفي حالة فيلم منزل الحقول ربما يكون ظهور شخص يتحدث أمام الكاميرا إجراء غير مناسب سيؤدي لا محالة لتوقف تدفق القصة أو التشويش عليها.

تتحرك كاميرا المخرجة تالا حديدبتثاقل مريح عبر كل مراحل الفيلم، وضمنهتفتح نوافذ كثيرة يطل من خلالها المتفرج على مشاهد تتيح له معرفة الكثير عن الموضوع من خلال الصور،حيث يتمتع بسعة الوقت لمشاهدة ما يدور داخل أسرة صغيرة ببساطة عيشها وأماني أفرادها. فيأجواءهادئة، ووسطالخضرةوالمياه، وموسيقىالمنطقة، تبدأمشاهدالفيلمبالتقاطع، وفقتسلسلمحكمتتحدثفيهالصوربسيادةمطلقةعن نفسها؛ صور مختارة بعناية وبترو مدروس، إذ لا سلطة تمارسها الكاميرا، عكس ما هو معتقد لدى البعض كون الكاميرا المتطورة تقوم بكل شيء،فيأتي عملهم مجرد شفط للصور بشكل سطحي ومجاني. ولعل الذي جعل صور الفيلم على تلك الأهميةبالرغممنبساطتها، هو التركيز على سلوك الناس وما يعيشونه وما يقولونه، حيثنكتشف أناسا بسطاء كما هم عليه، سلوكهم مكشوفبطريقة تجعلنا نتعلم منه، أناس عاديون يعرُّون أرواحهم بأريحية كاملة ليصبح الانتباه الى الكاميرا جزءا من سلوكهم، وهو ما يمنحالفيلم تلكالقدرة المطلوبة في هذا النوع من الأفلام على استفزاز فضول المشاهدين، وجذب اهتمامهم وتحقيق تلك المعادلة الصعبة التي تجعلك تريد مشاهدة الحكاية الى نهايتها.

ويبدوأنهناك لحظات حظ يهديها لك الفيلم الوثائقي أحيانا، حيث يمنحك قطعة من السلوك أفضل وأحسن وبشكليفوقأكبرتوقعاتك خيالا، وهو ما يبدو حاصلا في بعض مشاهد الفيلم والتي تحضر فيها تفاصيل ثمينة ليست في قائمة الأشياء التي تحدث ( الشاهد عندنا على سبيل المثال: مشهد الأب يمازح ابنته ـ مشهد الأختين يتحدثان قبل النوم...)،إذ يظهر من خلال هذه المشاهد ذلك الإقناع بأن اللحظة الرقيقة والمحبة بينهما وقعت بالفعل بالطريقة التي شاهدتها المخرجة تالا حديد.

إن الفيلم الوثائقي السلوكي لا يصور الصفات الشخصية أو طريقة الناس في العيش والكلام، فهذه التفاصيل مضمنة في السلوك الذي تنقله الكاميرا، إن ما يهم هو السلوك الفيزيائي بما في ذلك الطريقة التي يتحرك فيها الشخص، وكيف يأكل وكيف يلبس ويرتبأغراضه. أيضا ما  ينقل شفويا هو سلوك وليس مجرد كلمات فحسب، بهذا يتحدد الدليل البصري الجيد الذي نستنتج من خلاله جوهر الشخصيات وعمق الحكايات.

من هذا المنطلق فإن المخرجةتالاحديد عرفت كيف تجعل فيلمهايحققنصيبامنالامتاعالبصريبدونزياداتأوإضافات، إذ يبقىأهمإجراءحققللفيلمالغايةوالقوة،هوأنالمخرجةلم تستجب للإغراء القوي بالتعويض عن لحظات ضعف الدليل البصري بعرض مقابلات أو وضع شخص يتحدث أمام الكاميرا،هذامنجهة،ومنجهة ثانية،فهيتعرضعلينا شيئا لم نكن لنعرفه بطريقة أخرى، بسبب انعدام قناة استرجاعية يمكن للمشاهدين اختبار انطباعاتهم عن ما يدور هناك، وهذاهوسرقوةالفيلمالوثائقيالسلوكي،الذييعني التفكيربشأنأصنافمنالسلوكتتمنىأنتجدهوتصورهللفيلم،وأصنافمنالناسالذينربمايظهرونذلكالسلوكويسمحونلكبتصويرهفيفيلم.

لاشكأنالفيلمالوثائقي عمومامرهونبتقديمهدومانظيرا للحقيقة، وفيلم منزل الحقول واحد من هذه الأفلام، ولعل انحيازي الى جانب هذا النوع من الأفلاميتحكم فيه صدق القصد، وذلك الهم المنغص بتقديم نظير للحقيقة، لكن بتواضع جميل ومقنع،فالمخرجة تالا حديدلاتقدمسينماوثائقيةفخمةومبهرة، بلنوعا منالسينماالمتقشفة والمكثفة (والمتواضعة)بمايخدمموضوعها ويسنده، سينمالايهمهاغيرالشخوصالتيتدورحولهاالأحداث، تلك الشخوص التي صنعت الفيلمبالرغمعنها. وعلى الرغم من ضيق الحيز التي تدور فيه الأحداث، فقد اجتهدت المخرجة كي لا يبدو الفيلم متشابها أو مملا، حيث عرفت كيف تحرك الكاميرا بدكاء مكنها من كسر روتين بعض المشاهد المتكررة سواء عبر تغيير زوايا الكاميرا أو حجم اللقطات.

يبدو الفيلم في مجمله سهل التصنيف فهو قريب من الانتروبوجيا حول أنفسنا، حيث يمكنإدراجهضمنسينماالحقيقةأوالسينماالمباشرةأوالسينماالتلقائية، ويظهر أن المخرجة تالا حديد قد وظفت قدرتها الإبداعية من أجل شيء تحبه، إذ تمكنت من العثور على دليل بصري وتسجيله وتنظيمه،خالقة بذلك بيانا قويا يعرض تفاصيل (واقعية) وحقيقية.

ما يميز الفيلم هو إحساس المخرجة القوي بالمكان، وطريقة مزجها المناسب بين الفكرة الإخراجية واختيارات الكاميرا، ما جعل بنية الفيلم تتحرك وسط أجواء محايدة تعزل المكان إلا عن ما يخدم جمالية الفيلم، دون الاهتمام بإظهار ما يريده المتفرج من مكان معزول وسط منطقة جبلية، حيث البؤس والعوز والفقر ... (ربما يكون هذا الخرق لأفق انتظار المشاهد مقصودا). كما يظهر هذا الحياد الذي تتميز به أجواء الفيلم في عدموضع الشخصيات في اختبار أو تعريضهم للضغط، فقد تكون هناك مساعدة لكنها غير مقدمة (أو غير ظاهرة).

لا شك أن هناك صعوبة كبيرة تواجه الناس حينما يطلب منهم أن يكونوا أنفسهم في الوقت الذي لا يكون أمامهم شيء يعملونه، كما لا يمكن أن تقحم الناس أمام الكاميرا، وتباشر في التسجيل، ما سيحصل عليه المخرج هو أناس يحاولون تذكر كيف يتصرفون عندما يكونوا أنفسهم. من هنا يبدو أن المخرجة تالا حديد عرفت كيف تخلق تلك الاجواء الحيادية لكي تبقي شخصياتها مشغولة دون ضغط أو تحكم في الحركات أو الكلام، وهذا إجراء يجعل مخرج الفيلم الوثائقي دائم اليقظة والحدر، خصوصا في ما يتعلق بقراراته التقنية وطريقة توجيه الفريق التقني، فكل ما هو مسجل يبقى نتاج سلسلة من القرارات القصدية للمخرج ( اختيار المكان-نوع الكاميرا- زوايا الكاميرا-الإطار ....). حتى في حالة توقف الكاميرا فإن عملية اتخاذ القرارات لديه يجب أن تكون نشطة.

إن الجزء الحاسم في صناعة أي فيلم وثائقي هو الانتباه إلى بعض الأسئلة الضرورية، من قبيل: ماذا بإمكان الفيلم عرضه على المشاهدين بحيث يساعدهم على فهم الموضوع ولفت انتباههم إلى شيء ما؟ ماذا بإمكان الفيلم عرضه بحيث يجعلهم يريدون معرفة المزيد عنه؟