عبد اللطيف مجدوب: بائعة البطبوط

قصة ذات فصول مثيرة، تجري أحداثها بكل من هامبورغ وفاس، تحكي عن أسرة ألمانية رغبت في زيارة حامة مولاي يعقوب قصد الاستشفاء من مرض كان قد ألم بابنتها روزاموند التي ربطت علاقة بمفتاحة بائعة البطبوط...لكن سرعان ما اصطدم الأبوان؛ عند عودتهما إلى ألمانيا، بمشهد ابنتهما وقد سكنتها روح شريرة.. !! فتستمر المقاومة حتى كادت تأتي على حياة الفتاة المسكينة...

روزاموند..

كعادتها كل مساء تجلس ويلما في بلكونة تشرف على حديقة الفيلا، لم تكن القراءة لتشغلها عن تتبع حركات الأرجوحة وهي تطوح بابنتها روزاموند في الهواء الطلق، كلما رفعت من إيقاعها ـ عبر جهاز يدوي ـ كلما تنافرت خصلات من شعرها الذهبي، مستتبعة إياها بقهقهات ضحك متوالية ملؤها الهناء والحبور. بيد أن أمها، وحرصا منها على كبت حرقتها، كانت تبادلها على الدوام نفس النظرات المشرقة حتى وإن أخذت بيدها في النزول والترجل، مفضلة اصطحابها في الحديقة بدلا من الخادمة.. فقد تكون لمشاعر دفينة تود أن تعوض بها ابنتها ذات ربيعها السادس.

انتفض الكلب ميكي إلى جانبها مسرعا في اتجاه الكراج، فعلمت بعودة زوجها كولمن من العمل، والذي يكلفه مسافة 120 كلم ذهابا وإيابا بين مدينتي بوكستود وهامبورغ حيث يشتغل في محلة تصنيع الأعضاء البشرية..كان مرهقا يلهث حاملا زما لأكياس من الكاغد محملة بمواد استهلاكية.. فلم يقو على الانتظار إذ سرعان ما اتجه إلى غرفتها وهو يناديها من الردهة: "..روزاموند؛ روزاموند؛ حبيبتي! هلا توقعت ما جلبته لك بمناسبة عيد ميلادك..؟"، دلف إلى غرفتها واحتضنها في فراشها، وجعل يفك الأغشية عن دمية حمراء تؤدي أكثر من ثلاثين لحنا.. أخذت تتحول بها من لحن إلى آخر وهي جذلة ممسكة بيد أبيها... وفيما كان يهم بمغادرتها نادته بتوسل باد: "..بابا.. متى سأمشي على رجلي لوحدي..؟ ألم تعدني..."..

قاطعها وأمارات الارتياح بادية على محياه: "... آه.. نعم.. نعم قريبا.. قريبا هناك جديد سأثيره مع أمك حالا.. اطمئني حبيبتي..".

استشارة طبية

قعدت تستمع إليه بكل جوارحها وهو يعرض عليها ملخص لقائه بأخصائي في هشاشة العظام: "...قال لا داعي للقلق، وأشار علي بإمضاء إجازة طبية في منطقة معدنية؛ العديد من مرضاه تحسنت حالاتهم بعد الاستحمام بمياهها..".

أقبلت عليه ويلما بعينين مفعمتين بالأمل والترقب: "..فلنزر هذه المنطقة.. وهل هناك ما يقف حاجزا لإسعاد ابنتنا روزاموند؟!".

ـ "كلا.. كلا، لكن الشقة بعيدة، فالمنطقة كما وصفها لي الدكتور هوشت تقع بالمغرب قرب مدينة فاس.. تعالي هنا فلننظر..."؛ جرد من جيبه كتيبا بخريطة المغرب ثم بسطه على الطاولة، وراح يتعقب بسبابته موقع حامة مولاي يعقوب على بعد خمسة عشر كلم شمال غرب المدينة، بادرته ويلما وبصرها مازال مسمرا على موقع الحامة: ".. يبدو أنه موقع معدني، فهلا تخابرنا أولا مع مركزه لإمدادنا بمعلومات إضافية..؟".

ـ "..نعم فكرة جيدة"؛ رد عليها كولمن "..لكن لا علم لي ما إذا كان التواصل سيكون متاحا بيننا.. سنجرب".

أعاد الاتصال للمرة الثالثة، ليستقبله على الخط صوت نسوي بالإنجليزية: ".. مرحبا.. إنكم في اتصال مع حامة مولاي يعقوب المركز الاستشفائي.. مرحبا"، تولت ويلما الحديث إليها بحكم أنها أستاذة للغة الإنجليزية: "..مرحبا.. نحن أسرة كولمن نرغب في قضاء بعض الوقت عندكم..".

ـ ".. مرحبا، وهل تحملون استشارة طبية.. أم أنكم فقط تنوون قضاء فترة نقاهة؟".

ـ ".. نعم نحمل استشارة طبية..".

ـ ".. عفوا سأستدعي طبيبا لإفادتكم جيدا.. طيب.. طيب تفضلي بالإجابة عن بعض الأسئلة الروتينية: الشخص موضوع العلاج.. نوع الشكوى أو المرض.. تفضلي..".

ـ ".. طفلة في سن السادسة تمشي متثاقلة شبه عرجاء لشعورها بآلام خفيفة في عمودها الفقري..".

ـ الطبيب المعالج يرد من فوره: ".. مرحبا؛ هذه الحالة موجودة وتتضمنها أقسام مركزنا الاستشفائي.. ولكم حجز الإقامة متى رغبتم.. مرحبا".

تهلل وجه ويلما وراحت تقلب نظراتها على الحاسوب بنهم شديد؛ تستزيد من تعرفها على المركز وأصدائه.. حتى صارت تلاحقها نداءات كولمن: ".. إني أتضور جوعا، ألا ترحميني يا امرأة..؟ أنسيت عيد ميلاد ابنتك..آه".

بمطار فاس سايس

على الساعة العاشرة صباحا حطت طائرة تابعة للخطوط الجوية ليفتانزا على أرضية مطار فاس سايس، حيث شرع المسافرون ينزلون درج السلم، من بينهم أسرة كولمن؛ التي أتاحوا لها مصعدا خاصا مستقلا بعربة لابنتها روزاموند.

كان الطقس باردا وبقايا سحب تلوح في الأفق داكنة تلف بقمة جبل زلاغ؛ الذي بدا لهم من بعيد أشبه بدفة صخرية عملاقة تقف قبالة قمم جبال إيموزار مرموشة، تثوي بينهما مدينة فاس بأبنيتها الأصيلة والمعاصرة. وكم كان كولمن متهافتا على أخذ صور تذكارية كلما تقدم راجلا أو من خلال نافذة سيارة أجرة أقلتهم مباشرة إلى حامة مولاي يعقوب.

"... يالله.. لكرا.. لكْرا.. دار لكْرا.. زيدْ هاكْ السوارت.. بغْريرْ اسْخونْ.. الحرْشا بالزّبْدا الطريّا.. العسل.. داوي الله يداوي الحالْ...لا اغلا اعْليكْ آمسكين / آسير الله ينعال لمّاك التّا صــ / آقباط.. آقباط الشفّار../ الله أكبر الله أكبر (الأذان) / البطبوط.. البطبوط آلباقي مليح آزيدو..."؛ هي أصوات لسيمفونية ألفها قاطنو مولاي يعقوب، لا يفتر لها وقود، لاسيما في خضم ذروة توافد الزوار؛ تردد صداها تلال رملية تحتضن في سفحها محلات ودكاكين وباحة تعج بالحركة والصخب على وقع أصوات باعة وعربات وشوايات تملأ الفضاء بأدخنة لا تفتر عن القذف بأعمدتها صباح مساء

داخل حامة المركز الاستشفائي

كانت روائح الكبريت تكتسح المكان، فيما كان هناك مستخدمات ببذلات بيضاء يرحن في ذهاب وجيئة جوار غرف استحمام متناثرة هناك جوار ممرات معشوشبة؛ رصت حولها أسرة للتدليك أو التشبع قليلا بأشعة الشمس.

ارتدت روزاموند كساء خفيفا خاصا؛ اصطحبها طبيب وممرضة إلى جوار أمها، والتي لم تكن يمناها لتقوى على الانفكاك من يد ابنتها داخل العربة.

الماء ساخن إلى درجة 54° مئوية، لكن الطبيب المعالج أخذ يتدرج بها في الحرارة بدءا من 20° لمدة قصيرة قبل الانتقال إلى الدرجة 30° لتتلوها الممرضة بحركات تدليكية خفيفة على ظهر روزاموند، والتي بدت منزعجة، لم تتحمل بعد الرائحة المركزة التي كانت أبخرتها تكتنف غرفة المغطس.. لم يطل مكوثها داخل غرفة الاستحمام، تبعا للحصص المبرمجة لها ومدى كل منها.

قادوها إلى العراء لتتعبأ بهواء طبيعي خال من رائحة الكبريت التي ضايقتها إلى حد شعورها بالغثيان.. فعاد إليها مرحها إلى جوار أبويها، وهي تتأمل المحيط من حولها وصور الصخب والعراك والقدح والشواء التي مازالت تشغل ذاكرتها.

مفتاحة بائعة البطبوط

أمضوا مدة أسبوع في ضيافة المركز؛ مواظبين على الحصص الاستشفائية اليومية، كانت تتخللها خرجات وزيارات للمرافق الشعبية التي تزدان بها الباحة الرئيسية..وكم كان مشهد فتاة يأخذ بلبها حتى إنها اعتادت تناول فطائرها كل صباح بطلاء زيت الزيتون مع كؤوس شاي منعنعة.. كانت تقف مستندة إلى طاولتها تتفرج على قوافل السياح وهي تمرق أمام ناظريها.

وذات صباح، وبينما كانوا يستعدون لأخذ أهبتهم لمغادرة المركز، إذا بروزاموند؛ وبرجة غير اعتيادية من طاولة بائعة البطبوط؛ تفقد توازنها فتسقط على الأرض هبت إليها أيادي بعض العابرين وبائعة البطبوط وأبويها اللذين اعتقدا أن ابنتهما سيعسر شفاؤها إن لم يكن مستحيلا بعد ارتطامها بالأرض، حاولا إيقافها فلم تبد أي شعور بالألم، بل وقفت حتى إذا استقامت جعلت تنظر خلسة إلى مفتاحة بائعة البطبوط مخاطبة أبويها: ".. إنها لطيفة، كم وددت ألا أفارقها..ها..ها "، نظر الأب إلى ويلما نظرة استهجان ولسان حاله يقول: "..كيف لهذه السكيعة أن تأخذ بلب ابنتنا.. فأي تشابه.. ؟!"...

تابعا سيرهما في صعود نحو موقف السيارات، لكن وفي غفلة ولحظة لم تكن لتخطر على بال أحدهما قفزت روزاموند من العربة وأطلقت ساقيها للريح غير مبالية بالحشود البشرية التي كانت تؤثث جنبات الطريق، عائدة من حيث انطلقوا... وقفا متسمرين في مكانهما وبصورة تلقائية احتضن أحدهما الآخر، ونظراتهما مازالت تشيع من بعيد تسلل ابنتهما بين تلك الأكوام. لم تستطع الأم ويلما مقاومة دموعها غبطة بابنتها التي عادت إليها مشيتها دون سند ولا عربة.. كما وقف كولمن مشدوها لا يلوي على شيء سوى أن تحرك فيه الخوف من جديد على ابنته فطفق يناديها بنداءات متلاحقة؛ اخترقت أصداؤها فضاء مولاي يعقوب لترددها من حوله تلال للا شافية: "..روزاموند !.. روزاموند.. ! روزاموند.. !". ذهبت الطفلة دون توقف حتى إذا رمقت مفتاحة أتت إلى جانبها واستكانت غير آبهة بصرخات والدها التي كانت تلاحقها..اقتربت ويلما من البائعة ونفحتها ورقة نقدية من فئة 200 دهـ، ثم أمسكت بيد روزاموند وعانقتها بحرارة وهي لم تستيقظ بعد من هول المفاجأة. تأمل كولمن العربة، وبدا مترددا بين أن يصطحبها أو يدعها، لكن سرعان ما أشارت عليه ويلما بالاحتفاظ بها كذكرى لا يمكن محوها.

شيء غير عادي

شاع الخبر في أوساط آل ويلما وكولمن بشفاء ابنتهما روزاموند فانهالت عليهما التهاني من كل حدب وصوب، عدا الزيارات التي ظلت فيلتهما على مدى شهر قبلة للعديد من الأصدقاء والمعارف والجيران.

استأنفت روزاموند دراستها وأقبلت عليها بحيوية لم يعهد أبواها لها مثيلا من قبل، وبلغ شغفهما بابنتهما أن غيرا ديكور الغرفة حتى تخلو من كل الصور والمجسمات التي تذكرها بماضيها التعس.

مرت الشهور تباعا وروزاموند، في معظم أوقات فراغها، إما تتدحرج في الحديقة أو تؤدي حصصا في العزف على البيانو. لكن في إحدى الليالي البهيمة تناهت إلى مسامع ويلما أصوات قهقهة صادرة من بعيد، فأيقظت كولمن وجعلا يصيخان السمع، كل يحملق في وجه الآخر. نهض كولمن وأخذ بسمعه يقتفي مصدر تلك الأصوات، ولاحظ بذعر شديد أنها تشتد كلما اقترب من غرفة روزاموند التي كانت مضاءة؛ وفي حركة فجائية دون استئذان، اقتحم الباب حتى إذا انتهى أمام سريرها توقف الضحك فبادرته ابنته بنظرات استغراب: ".. بابا.. بابا ما الأمر أراك منزعجا".

كولمن: ".. ما هذه الأصوات التي..."

قاطعته: "..إنها للدمية التي جلبتها لي العام الماضي.. أتذكر..؟ فقط لم أكن على علم بأن صداها امتد إليكما أستسمحكما..".

كولمن: "..هيا ابنتي اخلدي إلى النوم، فغدا ستكونون على موعد مع رحلتكم المدرسية..هيا تصبحين على خير"، قالها وصك الباب، وقفل عائدا إلى حجرة النوم.

في الصباح الباكر، دوى بوق الناقلة المدرسية في انتظار أن تنظم روزاموند إلى قافلة رحلة ينتظر أن تنتهي إلى غابة تييربارك. وقف دليل الرحلة متوجها إلى التلاميذ: "... مرحبا.. سنكون سعداء بقضاء أمتع الأوقات بغابة تييربارك، ستتشكل منكم فرق للتجوال، لا تذهبوا بعيدا، موعدنا الساعة الثانية عشرة حيث ستتناولون وجبة الغذاء، ثم سيتم التقاط صور تذكارية في حفل موسيقي.. قبل أن نغادر المكان الساعة الثالثة زوالا..أوكي؟".. أعقبته تصفيقات وصيحات فتيات.

وسط غابة تييربارك

ذهبت روزاموند ضمن فريقها، اتجهوا غربا ليتفرجوا على الحيوانات وأشكال الطيور وأحواض الأسماك.. وبينما هم كذلك إذا بإحداهن تصرخ فجأة: "..أين هي روزاموند؟ لنتريث قليلا عسى أن تدركنا..ربما ضلت سكتها وسط هذه الأدغال الشائكة..".

أدركهم رئيس الرحلة، وأخذوا يبحثون ويستقصون ويسألون عنها كل الزوار الذين صادفوهم. حلت بالقافلة صدمة كبيرة وباتت في حيرة من أمرها، فلم يكن من المشرف العام سوى أن ألغى باقي برامج الرحلة، وهم بالعودة، لكن قبل ذلك أجرى مكالمة هاتفية مع كولمن: "..السيد كولمن أنا رئيس فريق الرحلة، نبلغك بإلغائنا للبرنامج إثر افتقادنا لابنتكم وسط الغابة..".

كولمن مقاطعا: "..السيد الرئيس تتحملون كامل المسؤولية طالما أنكم سمحتم لابنتي أن تبقى عرضة للضياع، ونحمد الله أن صادفت سيارة عابرة بالمكان أقلتها إلى منزلنا!".

ـ ".. نعم نعتذر ونعدك باسترداد المبلغ كله، مع كامل اعتذاري..!".

وجه عجوز شمطاء معربدة !

التحقت روزاموند بغرفتها باكرا، وعلى غير عادتها، لم تتناول عشاءها على مائدة العائلة رغم إلحاح والديها، متحججة بأنها تناولت طعاما في طريق عودتها من الرحلة.

ظل كولمن حائرا يحاول فك لغز ضياع ابنته وسط الغابة بعد افتراقها عن أصدقائها، وفي آن كانت ويلما تحاول إقناعه بأن الأمر مجرد صدفة أو مكيدة مدبرة من إحدى صديقاتها.. أطفئت الأنوار واستسلما لنوم عميق بالرغم من أن نوم ويلما أحيانا يتأثر بأخف الأصوات إلى أذنها، حتى ولو كان عبارة عن طنين ذبابة..وفي جوف الليل، وبينما كان قرص القمر يتسلل بين سحب داكنة، تمرق عبر نافذة غرفة النوم، إذا بصراخ حاد مصحوب بطرقات متوالية على باب الغرفة، وفي هيئة مذعورة استفاقا وراح كولمن يتحسس عصا غليظة أسفل السرير.. أوقد المصباح واتجه توا إلى الباب مصيخا بسمعه، لكن اختفى كل شيء.. فتح الباب وأخذ يخطو بحذر..فقط استوقفت نظراته بقع دم تتضاءل في حجمها صوب غرفة روزاموند...فتح بابها ليرمقها في ضوء فانوس على يمينها نائمة مستلقية على بطنها، وما كاد أن يعدل أغطيتها حتى انقلبت في وجهه أشبه بعجوز شمطاء بشعر منتفش وعينين تتوقدان نارا... نادته بصوت هدير الطاحونة: "... دعني أنام.. لم تقلق راحتي.. دعني أنام.... !".. ولى هاربا من وجهها وصراخها في أثره "دعني أنام.. !".

"... ويلما... ويلما هل عرض لي كابوس أم أنني... أصبحنا محاصرين.. منزلنا أصبح ؟ !".

ويلما تتصل بالشرطة، وفي أقل من ربع ساعة حضر كوميسير المنطقة مع بعض رجاله، وأخذوا في تمشيط محيط الفيلا..أخيرا غادروا بعد أن لم يلحظوا شيئا يستدعي التحقيق.

في الصباح الباكر استبقتهم إلى مائدة الفطور، وبينما كانت الخادمة تصب الحليب في كوبها باغتتها مزمجرة: "...لا.. أريد الشاي بالنعناع والفطيرة والزيت.."، التحق والدها، وقبل أن يستوي في كرسيه ألقى عليها تحية الصباح دون أن تطاوعه نفسه بالنظر إلى محياها.. لكن إذ سرعان ما حملت حقيبتها وهمت باللحاق بالأتوبيس المدرسي.

ليلة أشد رعبا !

أصبح الليل يشكل لهما كابوسا..بمجرد أن يأويا إلى فراشهما تشرع خواطر وصور قاتمة تنهش ذاكرة كل منهما، حتى إن كولمن استعار مسدسا جعله تحت وسادته تحسبا لأي طارئ منغص..لكن ما إن أسلما جفونهما للنوم حتى سمعا صوت روزاموند صادرا من البهو.. هبّ كولمن واقفا موجها مسدسه صوب الباب، كان صوتها ناعما متوددا: ".. بابا.. ماما.. "، فتح الباب وكاد أن يغمى عليه وهو يرى العربة مقلة مفتاحة تسوقها ابنته....!! استمسك قليلا قبل أن يصوب مسدسه تجاه العربة، بيد أن صوتا مستعرا تداركه من الخلف: "... لا... لا تفعل كولن، كانت ويلما تجر أذيالها وهي تحاول أن تحول بين ابنتها وموت محقق، لكن... وإثر دنوه من العربة زأرت في وجهه مفتاحة وقد تحول فمها إلى فوهة فرن هادر تتصاعد منه النيران محاولة لسعه هها..هها.. ععا..ععا..عععا..ههها".

كولمن يستغيث...متراجعا.. وقد سقط المسدس من يده.. أخذ يزحف على يديه ورجليه يريد الفرار... !!".. رباه.. رباه.. ويلما.. أينك هل مت أم...؟"، أمسكت بذراعه محاولة إسعافه على النهوض بيد أن قواه خارت، بالكاد استدار نحوها وأخذ في الحشرجة..."... ويلما... ويلما... ماذا دهاني؟... هل أنت ويلما حقا؟... لم تعد ذاكرتي....".

كان محيط الفيلا مازال يغمره الظلام إلا من غبش مصابيح ضعيفة تناثرت حول الحديقة... أخذ يخطو بصعوبة إلى جانب ويلما، بين الفينة والأخرى يتوقف وكأن فكرة ما عنت بباله فأخذ يقلبها أو على الأرجح يقرأ عواقبها...وما هي إلا لحظات حتى أسرع في مشيه صوب قبو أسفل الفيلا المعد للمتلاشيات والأدوات المتقادمة.. دلف إليه في سكون رهيب، وبحذر شديد أخذ يتحسس شظايا معلقة هناك، وقبل أن يلمسها تراجع إلى الخلف ليقذفها بالغاز وفي نيته التخلص من العربة... لكن ما كاد يفعل حتى توهجت أركان القبو، وإذا بصوت عميق هادر يصك أذنيه مقهقها تارة ومحذرا أخرى:

" ها... ها... ها...لا..لا... ها...ها... لا.. !!"، ثم سرعان ما تحول إلى صوت كلب يئن ألما، ودون أن يتوانى أقدح ولاعة ثم رشقها بها فاشتد اللهب وتطايرت شهب يتخللها صراخ قوي ولغط كبير "... البطبوط.. البطبوط..زيد البطبوط فابور.. متحرقنيش.. البطبوط Bapa Mama.. Dood.. me neit..Dood me neit …Ha..Ha Wees de..octopus …………..Burns ……….Nee……” بابا.. ماما متقتلونيش...ها...زيد الباقي من لمليحْ"...

صراخ وعويل وتطاير لشظايا نيران وأدخنة.. كادت أن تأتي على جميع محتويات القبو.. وعلى مقربة من البوابة وقفا مسمرين يرقبان مشهد ألسنة النيران وهي تفور...

وفي لحظة ما، وبينما كانا مغمى عليهما، إذا بصوت روزاموند ينتهي إلى مسامعهما: "بابا.. ماما "، كانت تناديهما وهي تتخطى القش والحجارة والرماد من داخل القبو في اتجاههما ليسدل الستار على: عناق شبه وثني لثلاثتهم تحت ضوء قمر تتسلل خيوطه عبر سحب متلاشية جهة الغرب.