محمد بودويك: التعليم ما قبل المدرسي بين الواقع والطموح

كل شيء يبدأ من هنا. كل رهان ينبغي أن ينطلق مما هو حقيق بالانطلاق. إذ التعليم ما قبل المدرسي، ( أوثر التسمية هذه على تسمية الفترة الزمنية تلك من عمر الأطفال، ب: التعليم الأولي، دفعا للالتباس بالتعليم الابتدائي على مستوى المنطوق اللغوي والدلالي، إذ الأولي هو الابتداء، والابتداء هو الأول. ومعلوم أن الأولي مرحلة لاحقة على ما قبل المدرسة )، هو أس الأسس، ولبنة البناء، وزاوية الدارة، ومبدأ التخطيط البعيد، والاستراتيجية المحكمة. لأنه واقٍ من التسرب المبكر، والانقطاع المفاجيء عن الدرس والتمدرس، والهدر المدرسي الذي يعانيه المغرب من أقصاه إلى أقصاه حيث يتلقف الشارع كل عام آلاف الأطفال غير الممدرسين والمتسربين، ما يعني جيشا احتياطيا آخر ينذر بأسوإ العواقب، ويهدد البلاد بالويل والثبور، والتخلف المريع. من دون إغفال مصير البعض مع البحار، والعرمرم الذي يملأ شوارع إسبانيا ومدنها، ويذرعها صباح ـ مساء متخفيا من الأرصاد، وهاربا من وطنه لأن لا مستقبل له، بل لا حاضر له، فكيف بمستقبل لا يراه.؟

ثم إن التعليم ما قبل المدرسي الذي " انتبهت " إليه الدولة مؤخرا، وكانت ترى واقع حاله المتردي من دون أن يرف لها جفن، ومن دون إسعافه، والإسراع إلى إنقاذه وإنهاضه بالمال واللوجستيك، والتأطير القانوني والتنظيمي والبيداغوجي، يقطع دابر الأمية الأبجدية والحسابية، و" المعرفية "، متى تم تعهده بالرعاية والعناية والمصاحبة الفعلية المسؤولة، والتتبع اللازم، ويمنح الفرصة الذهبية لمواصلة الدراسة في أطوار التعليم الموالية، لأن الطفل، وهو يلج مرحلة التعليم الابتدائي، يكون قد " شبع " لعبا ولهواً وتسلية، وتفتقت مداركه الصغرى، وخياله الغض على محيطه الطبيعي والآدمي، وتواصل مع أترابه وأقرانه إناثا وذكورا، ما يجعل المرحلة إياها، مرحلة التعليم الابتدائي، سلسه، متاحة يقبل عليه مسرورا محبورا.

إن الدولة التي أهاب بها الملك محمد السادس، لتولية التعليم ما قبل المدرسي، ما يلزم من رعاية وعناية وتنفيذ في الزمان والمكان، وفي كل جهات البلاد، هي السبب في ما آل إليه وضع التعليم العام بالبلاد من إفلاس في كل أطواره وأسلاكه، وفي مقدمته: التعليم ما قبل المدرسي. إذ اهتمت، على علات ذاك الاهتمام، بباقي أطوار وأسلاك التعليم دون التعليم ما قبل المدرسي، مراهنة على القطاعات الوزارية المختلفة، وجمعيات المجتمع المدني في القرى والمداشر والدواوير النائية، ومراهنة على الجماعات الترابية المحلية التي طولبت برصد نسبة مئوية من ميزانيتها لفائدة هذا النوع من التعليم. والحال أنه لا الجماعات قامت بما يتوجب عليها، ولا الدولة تدخلت ب صرامتها " المعهودة " من أجل إقرار ذلك الحق الدستوري، الإنساني والحضاري.

ولنا أن نشير إلى المطاب والخلط الذي عاناه التعليم ما قبل المدرسي منذ عقود، حيث تفرق " دمه " في القبائل. والنيجة: أن جل أطفالنا وطفلاتنا في المغرب " السعيد " كانوا ضحايا الارتجال، والتضارب، يؤطرهم متطوعون ومتطوعات لا علاقة لهم بمناهج وبرامج التربية ما قبل المدرسية التي كرست لها منظمة " اليونسيف "، ومنظمة " اليونسكو "، كراريس وكتب تربوية تخدم المرحلة إياها ما دامت تقوم ( أي المرحلة ) بدور رئيس في تشكيل شخصية الطفل باعتباره " أب الرجل "، وباعتبار المرحلة أسا بنائيا تنعكس آثاره على مسيرته التعليمية لا حقا. فكيف تتحقق هذه البغية التربوية، وهذا المرمى البنائي والحضاري، والحال أن التعليم ما قبل المدرسي تتوزعه أصناف، وتتقاسمه فضاءات مختلفة مؤهلة وغير مؤهلة، ومتدخلون مختلفون، وبرامج ومناهج هجينة ومتعارضة ومتخالفة، بل ومتضاربة. وهي الأصناف الفسيفسائية التالية:

ــ تعليم ما قبل مدرسي مندمج بالمدارس الخاصة.

ــ تعليم ما قبل مدرسي يتمثل في الكتاتيب العصرية المرخص لها من قبل نيابات التعليم ( المديريات الإقليمية راهنا ).

ــ تعليم ما قبل مدرسي عتيق تابع لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.

ــ تعليم ما قبل مدرسي تابع لمندوبيات وزارة الشبيبة والرياضة.

ــ تعليم ما قبل مدرسي تحت رعاية مندوبيات التعاون الوطني.

ــ تعليم ما قبل مدرسي تؤطره بعض الجمعيات.

ــ تعليم ما قبل مدرسي خاضع لمؤسسات أجنبية.

ــ تعليم ما قبل مدرسي عشوائي لا رخصة له، ولا يخضع لأي جهة.

هي ذي اللوحة السوريالية. هي ذي المِزَقُ والرُّقَع التي تحدث عنها ذات قصيدة شاعر النيل حافظ إبراهيم. والنتيجة الحتمية: ضياع الأطفال، وانتفاء تكافؤ الفرص والمساواة، والحق في تعليم ذي مصداقية، وذي جودة مثلما تلح على ذلك إحدى دعامات الميثاق الوطني للتربية والتكوين.

وبناء على هذه المعطيات الغريبة، فإن الدولة مطالبةٌ مطالبةً فورية بتوحيد برامج ومناهج هذه المرحلة ما قبل المدرسية. وما نعنيه بالبرامج والمناهج إِنْ هو إلا استحضار جهود ومحتويات الأدبيات التربوية الخاصة بالمرحلة والتي تدور في معظمها على إدماج الطفل التدريجي ضمن أوليات بُغْياته، ورغائبه، ومداركه، وخيالاته، بتسمية المحيط الطبيعي من إنسان وحيوان ونبات وأشجار، وتسمية الألوان، وتنويع الأنشطة التلهوية من قفز ونط ورسم وتلوين، وإنصات إلى الموسيقا الخافتة التطريبية، وإسماعه الأناشيد الماتعة الدالة، وعرض صور معينة أما عينيه.. الخ، الخ.

ومن ثم، لم يكن غريبا ولا جديدا ما دعا إليه الملك من ضرورة إلزامية التعليم ما قبل المدرسي بقوة القانون بالنسبة للدولة والأسرة. إذ ظل ذوو الرأي التربوي، والباحثون في حقل البيداغوجيا الخاصة والعامة، وعلم نفس الطفل التربوي والمعرفي، والسوسيولوجيا، وغيرها، ينبهون إلى خطورة إهمال المرحلة، ووضع الأطفال رهن تجارب مخبرية مختلفة ومتعاودة كالفئران.

لكن خطورة إهمال التعليم ما قبل المدرسي، يكتسب ـ الآن ـ حجية بعد الرسالة الملكية التي شددت على الفوارق الكبيرة بين المدن والقرى من حيث الاستفادة، ومن تفاوت النماذج البيداغوجية المعتمدة، ونوعية وعدد المربين والمربيات، والمتدخلين والمتدخلات.

والأهم في الرسالة الملكية، إلحاح الملك على " ضرورة بلورة إطار مرجعي وطني للتعليم الأولي، يشمل كل مكوناته، لا سيما منها المناهج، ومعايير الجودة، وتكوين المربين، بالإضافة إلى تقوية وتطوير نماذج التعليم الحالية لتحسين جودة العرض التربوي بمختلف وحدات التعليم الأولي في كل جهات المملكة ".

هذا كلام الملك الذي ينبغي أن يرى التنفيذ في الآجال القريبة المحددة، وفي المدى المنظور، من دون تراخٍ ولا إبطاء ولا تسويف. إذ تعودنا على الحماس البدئي الذي سرعان ما ينطفيء كما تنطفيء شهوة الديك في السفاد.