تحليل

مشروع قانون المالية 2019.. إعلان صريح عن قطاعات اجتماعية منكوبة

محمد حركات

عثرت يوم الأربعاء 15 غشت 2019 صباحا على الرسالة التأطيرية بشأن إعداد قانون المالية لعام 2019 (في 22 صفحة) التي بعثها، في اليوم نفسه، رئيس الحكومة إلى الوزراء، ضمن المنشور رقم 4 - 2018، الصادر يوم 13 غشت 2018. ولقد سجلنا في مقالنا الصادر يوم 14 غشت 2018، والمنشور بالجريدة الالكترونية، مدى تأخر إصدار هذا المنشور لملاءمته مع منشور البرمجة الميزانياتية الثلاثية 2019-2021، التي ستدخل حيز التنفيذ ابتداء من سنة 2019، حيث لم تعقد أي لقاءات علمية أو ندوات تحسيسية من طرف الحكومة لتقييم أثرها على التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، في غياب مخطط التنمية، الذي تم الاستغناء عن العمل به منذ 2004، الشيء الذي يبرز مدى ضبابية الرؤية الاستراتيجية وضعف الالتقائية في البرامج والإنجازات في البلاد، فضلا عن عجز تقييم السياسات العمومية، وبناء ميزانية مواطنة مفتوحة، عبر إشراك العموم في مختلف مراحل إعداد الميزانية وتنفيذها ومراقبتها، وفق التطبيقات العالمية الفضلى في هذا المجال. اعتبارا لهذه الفرضيات نريد أن نطرح للنقاش بعض الملاحظات الجوهرية التي سجلناها، على ضوء قراءتنا لمضمون الرسالة التأطيرية لمشروع قانون المالية لسنة 2019، والتي تكمن، في اعتقادنا، في العناصر الآتية:

غياب هوية واضحة عند الحكومة في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، منذ عشر سنوات مضت، لا سيما فيما يتعلق بتدبير وحكامة قوانين المالية، التي تسير منذ عدة سنوات خلت، وفق وتيرة روتينية متشابهة - باستثناء توجهها الليبرالي في تفقير الطبقة الهشة والوسطى والدفاع الحثيث والملموس عن رأس المال، عبر اتخاذ عدة إجراءات تشجيعية وإعفاءات ضريبية، على حساب العمل، وبدون تقدير أثرها على التنمية- في أفق بلورة رؤية اقتصادية متجانسة ومتينة تحمل مشروعا مجتمعيا واضح المعالم، حيث نجد أن خطاب العرش هو الذي حدد فعليا المعالم والتوجهات الرئيسية الجديدة لقانون المالية 2019 في المجال الاجتماعي، من تعليم وصحة وتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية وإنعاش الشغل وتحسين القدرة الشرائية للمواطنين ووضع برامج الحماية الاجتماعية من خلال جس نبض الشارع ومطالب برلمان الفايسبوك.

غياب البعد الجيواستراتيجي عند الحكومة في الرسالة التأطيرية، حيث لا تستحضر البعد الدولي المضطرب، سواء فيما يخص البرمجة الميزانياتية الثلاثية لسنوات 2019-2021، أو في مشروع قانون المالية 2019، المتمثل في الإجراءات الحمائية المتخذة من طرف الولايات المتحدة ضد بعض الدول الشريكة للمغرب، مثل الصين والاتحاد الأوروبي أو الخلاف الأمريكي- التركي، وآثار ذلك على الاقتصاد والتجارة الخارجية المغربية، فضلا عن عدم إثارتها متطلبات تقوية قدرات الدبلوماسية الاقتصادية المغربية في إفريقيا أساسا، وآسيا وأوروبا، وتوجهات الأمة في الموضوع، بل اكتفت بسرد فرضيات سعر البترول بمعدل68 دولارا للبرميل، وتحصيل زراعي في حدود 70 مليون قنطار، وتحقيق نمو 3,2 بالمائة سنة 2019، وتطور القيمة المضافة للقطاع الفلاحي في 3, 7 بالمائة مقابل 3 3, بالمائة عام 2018، علاوة على عدم تحديد الرسالة التأطيرية لنسبة عجز الميزانية ونسبة التضخم، على غرار ما جاء في المنشور المتعلق بالبرمجة، على ضوء المشاريع الاجتماعية المتوقعة في مجال تحسين القدرات الشرائية للمواطنين ضمن مشروع ميزانية 2019.

عدم الوضوح وتناقض الرسالة التوجيهية في ضبط توقعات نسبة النمو التي حددت في3,2 بالمائة سنويا ضمن مشروع قانون المالية، وفي نسبة تتراوح بين 4,5 بالمائة و5,5 بالمائة من الناتج الداخلي الخام في أفق 2021، ضمن منشور البرمجة الميزانياتية الثلاثية 2019-2021، وهي نسب تظل، في كل الأحوال، غير كافية أمام سقف تطلعات المواطنين في مجال الصحة والتعليم والثقافة واقتصاد المعرفة والتجديد والإبداع، لكي يتبوأ المغرب المكانة التي يستحقها بين الأمم... غير أن ذلك لا يبدو واضحا في التوجهات العامة، التي جاء بها المنشور، أمام غياب سياسة واضحة ومندمجة في إدماج الشباب والكفاءات الوطنية من أجل النهوض بالبلاد، لاسيما الطبقة الهشة منهم، ويعني الأمر الشباب العاطل عن العمل وحملة الشهادات والأطر العليا من مهندسين وأطباء وكفاءات متنوعة أخرى. وحسب دراسة حديثة، هناك91 بالمائة من المغاربة يفضلون الهجرة إلى الخارج و74 بالمائة منهم يتمنون الرجوع إلى البلاد. لذلك يبدو، والحالة هاته، كما سجلنا ذلك سابقا، أن نسبة النمو المذكورة، ضمن التوجهات العامة لإعداد البرمجة، يصعب تحقيقها في مناخ متردد الاستثمار، وعناد الإدارة البيروقراطية واستعلاء مسؤوليها، يعني غياب الانخراط الفعلي المجتمعي لكل الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين في تنمية الثروة وتوزيعها توزيعا عادلا.

غياب أي إشارة عن توجهات الحكومة في مجال اقتصاد المعرفة والبحث العلمي، التي تشكل في البلدان الصناعية الركيزة الأساسية لقانون المالية، وعلاقته بمجتمع المعرفة، حيث أبرز تقرير البنك الدولي حول التنافسية لسنة 2018 أن التنافسية جامدة، وأن التحدي الرئيسي للمغرب يكمن في تحسين بيئة الابتكار التي يحتل فيها الرتبة 94 عالميا، والرتبة 101 في مجال جودة النظام التعليمي والتدريب، والرتبة 120 في كفاءة سوق العمل.

طموح المشروع في إعطاء أولية قصوى للجانب الاجتماعي، وتحسين القوة الشرائية للطبقات الهشة والمتوسطة في مشروع القانون المالي، لم يرد أو لم يوضح بما فيه الكفاية، ضمن منشور إعداد البرمجة الميزانياتية الثلاثية لسنوات 2019-2021، الشيء الذي يستلزم مراجعة هذه البرمجة بكل حذافيرها من أجل إضافة المستجدات الواردة في الرسالة التوجيهية، على ضوء الخطاب الملكي الأخير.

عدم واقعية وكفاية المدة الزمنية المحددة، من طرف رئيس الحكومة، في المنشور المرسل إلى الوزراء لتقديم اقتراحاتهم إلى مديرية الميزانية بوزارة المالية، والذي حدد في 31 غشت، علما أن المنشور تم إصداره متأخرا، مع العلم أن مصالح الآمرين بالصرف توجد أغلبيتها في إجازة سنوية، على غرار الوزراء، وأن الفترة المتبقية، ما بعد الأربعاء 15 غشت 2019، يعني أسبوعين على الأجل المحدد، لا تكفي لأنها تتزامن مع عدة عطل وطنية ودينية أخرى، وبالتالي فإن التقديرات المطلوبة لن يتم تقديمها في أجلها المحدد وفي أحسن الظروف الممكنة.

هيمنة الجهاز التنفيذي في الإعداد، سواء بالنسبة للبرمجة الثلاثية 2019-2021 ودعم أهداف ومؤشرات نجاعة الأداء أو بالنسبة لقانون المالية 2019، فضلا عن غياب تنصيص القوانين المنظمة لإعداد وتنفيذ قوانين المالية 2019 على إشراك المجتمع المدني والخبراء في مناقشة هذه التجربة الجديدة للبرمجة، رغم أنها وجدت أصلا، حسب ما جاء في التطبيقات الدولية الفضلى، لخدمة المواطنين، ومختلف الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين، من خلال تأمين نجاعة الأداء للخدمات والمرافق الاجتماعية النوعية المقدمة إليهم طيلة الثلاث سنوات المقبلة، وفق أهداف ومؤشرات مضبوطة.

ولقياس مشاركة العموم يقدر مسح الميزانية المفتوحة الدرجة التي عندها الحكومة الفرصة للعموم للمشاركة في عمليات وضع الميزانية التي ينبغي أن تتوفر في كافة مراحل دورة الميزانية من قبل السلطة التنفيذية والهيئة التشريعية والجهاز الأعلى للرقابة (المجلس الأعلى للحسابات)، وفي هذا الشأن رتبت منظمة الشراكة الدولية للميزانية IBP، حول ميزانية 2006، المغرب ضمن البلدان التي لا تمنح إطلاقا معلومات للمواطنين، أو نزرا منها. ورغم المجهودات التي قامت بها الحكومة المغربية، منذ عام 2012، عبر زيادة إمكانية توفير معلومات الميزانية، فإن ترتيب المغرب في مجال الميزانية المفتوحة مازال ضعيفا. ويبرز مسح الميزانية المفتوحة مدى قدرة السلطات التنفيذية أو التشريعية وأجهزة الرقابة العليا على توفير المراقبة الفعالة للميزانية - تخطيطا وتنفيذا- فعلى سبيل المثال رتب المغرب في مجال شفافية الميزانية 45على 100، ونقطة صفرية في مجال مشاركة العموم في إعداد الميزانية، و31 على 100 فيما يخص فعالية الرقابة علي الميزانية.

*باحث في المالية العامة والميزانية المفتوحة