عبد اللطيف وهبي: كذبة الشباب

((الشباب عهد تحصيل الحكمة، أما الكهولة فعهد ممارستها)) جون جاك روسو

فوجئت وأنا قد تجاوزت الخمسين من عمري، أن أحد السياسيين في مؤتمر دولي يقدمني بالسياسي الشاب، شعرت أن الرجل يستصغرني حتى لا أقول أنه يمارس على الجميع أبوية، فقط لأنه تجاوز الستين من عمره، أو لأنه في منصب يسمح له أن يكون أب الجميع.

حينما كنا شباب، كنا نسمع الجميع يقول إنكم متسرعون، انتظروا قليلا، فدوركم قادم، كنا خجولين مترددين، ربما لنشأتنا داخل أسر تقليدية، أو ربما لطبيعة تربية المدرسية العمومية آنذاك، فكبرنا إذ لم أقل غزى الشيب شعرنا، ومازلنا شبابا في رأي الكثيرين، ربما لأن توظيف صفة الشباب أحيانا يكون كنوع من القمع، على الأقل لجيلنا للقفز عليه، وإعطاء الفرصة لجيل آتي بعدنا، و ربما الجيل السابق يمسك زمام الأمور بأسنانه، أو ربما يتم قمعنا بهذه الطريقة التي تعبر عن ذكاء فيه الكثير من سوء النية.

و بعد أن خبرنا السياسة، فوجئنا بموجة جديدة وعارمة، تتحدث عن دور أقوى للشباب، تارة عن اللائحة الوطنية للشباب، وعن إعطاء الفرصة للشباب، وتارة أخرى عن منحهم نسبة كوطة معينة داخل هياكل الأحزاب وداخل البرلمان، لنجد أنفسنا نحن نقمع مرة أخرى من طرف جيل جديد هذه المرة، بعدما قمعنا من الجيل القديم، فالسابقون يقولون عنا أننا شباب يجب أن ننتظر، وشباب اليوم يقولون عنا أننا شيوخا يستعجلون رحيلنا.

وفي خضم هذا النقاش وجدنا بالبرلمان لائحة وطنية للشباب، قيل حول دخولها البرلمان الشيء الكثير، فسمعنا عن توزيع مبالغ ضخمة على اليمين وعلى اليسار، ورأينا كيف صنع الولاء أسماء داخل لوائح الشباب بالبرلمان، ناهيك عن الاهتمام بالفروع لخدمة الأصول، بل إن حزبا وطنيا بجلال قدره لم يوزع صور وأسماء لائحة الشباب خلال الحملة الانتخابية، لأنها تتضمن أسماء وصور أبناء قيادات هذا الحزب، والكل ساكت وصامت على هذا الانحراف.

وهكذا علمنا الجيل الجديد كيف يمارس السياسة في أقبح صورها، حتى أصبح أغلب هؤلاء الشباب أنفسهم يخطب ويتكلم معلنا عن محاربة الريع، و يدعو إلى الأخلاق الحميدة، دون أن يلتفت إلى أن تواجد أغلبه بالبرلمان بني على نوع من الريع.

لقد كشفت الممارسة أن تجربة اللائحة الوطنية للشباب بمجلس النواب قد أساءت إلى السياسة وإلى البرلمان وإلى الشباب نفسه، على الأقل بشكلها الحالي، طبعا مع استثناء قليل جدا لبعض الإشراقات التي سرعان ما يتم إبادتها مباشرة بعد خروجها من البرلمان.

إن تجربة اللائحة الوطنية للشباب كتجربة مؤقتة بلغت مداها ونهايتها، وعلى الشباب أن يدخل للسياسة من الأبواب وليس من النوافذ، عليه أن يقاتل داخل الأحزاب من أجل التموقع وفرض الذات، وأن نحد من هذا الريع الانتخابي، فيكفي ذلك الريع باسم النوع والذي قبلنا استمراره على مضض رغم أن المحكمة الدستورية أكدت بأنه إجراء استثنائي ومؤقت، فلم يتم إلى اليوم أي تقييم لهذه التجربة سواء على مستوى الشباب أو على مستوى النوع، فقط ضخمنا عدد النواب وأثقلنا كاهل البرلمان والخزينة، لاسيما وأن بلادنا تعاني صعوبات اقتصادية واجتماعية.

يبدو أن كارثة تجربة الشباب لم تقف عند حد إثقال كاهل الميزانية العامة فحسب، بل كانت متواضعة حتى على مستوى الفعالية والإنتاج الفكري والتشريعي، حتى أصبح تدخل بعض من الشباب في البرلمان يشعرك في كثير من الأحيان بأنه لم يعد هناك فرق بين البرلمان وبين ملعب لكرة القدم.

إن تقييمنا السلبي لتجربة اللائحة الوطنية للشباب لا تعني بتاتا اعتقادنا بأن عامل السن عائق للتموقع والترقي الحزبي والسياسي، ولكن نريد هذا التموقع أن يكون مبني على الكفاءة والنضال وليس الريع، فالسياسة الناجحة هي التي تنبني على الوضوح وعلى الموضوعية، وأن للزمن تراتبيتة، وكل عليه أن ينتظر دوره بشكل طبيعي وموضوعي كما انتظرناه نحن، وكفى من قتل السياسية بالشعارات النظرية ومخالفتها واقعيا بالريع.