صلاح الوديع: ما معنى أن أكون مغربيا؟

حين وصلني هذا السؤال، لم أكن أتوقعه أبدا. بدا لي غير ممكن، بكل بساطة. ف"كوني مغربيا" شيء أعيشه أكثر من أنني أقوله، أكثر من أنني أبلوره في كلمات... بدا لي أن السؤال ينتمي إلى الأسئلة التي لا تطرح بتاتا أو إلى تلك التي لا ننتظرها لأن الأمر من البداهة بحيث لا يطرح السؤال ولا يُجاب عليه... مثل أن تسأل أحدا بأي عضو فيك تخطو على الأرض أو بأي عضو في ذاتك ترى الوجود؟...

لكن ما إن جلست إلى الكتابة، حتى شعرت بأنني أقوم بدورة ثم دورتين على ذاتي مثلما تفعل الفرس قبل الانطلاق... وفجأة تغير الحال، وإذا بالكلمات تأتي إليّ قبل أن أذهب إليها. كانت تصل تباعا، تعلن عن نفسها ثم تنتظر دورها للانتظام في الفقرات التي أخذت تنساب متتابعة بلا توقف. ولا أبالغ إذا قلت أنني كنت أشعر خلال كل المدة التي استغرقتها الكتابة التي دامت ساعة وبعض الساعة، كنت أشعر أن الكلمات والأفكار كانت شيئا في داخلي يختلج بقوة ويعبر عن ذاته بسلاسة فاجأتني أنا نفسي...

أن أكون مغربيا يعني بالنسبة لي، كما يقول ميلان كونديرا، أن أنظر إلى التاريخ القديم والحديث الذي يختزنه هذا الجزء من الكون، عبر "توارد انفعالات" تمتد إلى كل ذلك الزمن...

أن أكون مغربيا هو أن أتمكن من اعتماد علاقة راقية بفنون طبخ غاية في الأناقة والتفنن، هو أن أغتبط لتقاليد لباسٍ أبدعتْ رجالنا ونساءنا بقدر ما أبدعوها، هو أن أستحضر روائع العمارة التي كانت دوما منفتحة على السماء من حاضرة فاس إلى تخوم الجنوب، هو أن أستحضر الغنى الذي أغدقته الطبيعة على جغرافيا لا شبيه لها...

هو أن أستسلم لسحر جلال الجبال وسحر الصحراء اللامتناهية وسحر السهول المترعة بالخضرة الفيحاء، وسحر بياض الثلج الذي يشبه الخلود وسحر غابات الصنوبر اللاتحد، وأستحضر كل هذا جملة وتفصيلا...

هو أن أكون مشبعا بقدر لا بأس به بكل الخرافات التي تختزنها ذاكرتنا المشتركة: عيشة قنديشة وحميمصة وسيدنا علي وراس الغول وصورة آدم وحواء عرايا كما خُلقا وهما يغادران جنات عدن ليلتحقا ونحن معهم بجنة الأرض...

هو أن أستحضر سيرة "الكاهنة داهية"، جدتنا المجيدة، وجهُ المقاومة الأمازيغية الخالد، التي لم تقبل من الإسلام إلا بُعده الروحي فتمردت ضد التعسفات والمظالم التي ارتكبها الغزاة العرب، تلك المظالم التي دفعت القائد "ميسرة" ورفاقه إلى التمرد على الخليفة الأموي الذي كان يشترط على قواده الميدانيين ألا يرسلوا إليه من جداتنا المسبيات الأسيرات المساقات من "إفريقية" (اسم المغرب آنذاك) إلا "ذوات الجمال الأنيق والأكفال العظيمة والصدور الواسعة والأجساد اللينة..." من أجل تأثيث حريمه...

هو كذلك أن أستحضر القامة الوطنية شبه الخرافية لمحمد الخامس وأستحضر النضال المستميت ضد البعد الأوتوقراطي للحسن الثاني ذي الذكاء الدبلوماسي، المدافع على ضرورة إعطاء الوقت ما يكفي من الوقت مما لا يطيقه التاريخ، هو كذلك اللحظة التاريخية اللاتنسى مع محمد السادس في سفينة الإنصاف والمصالحة، هو كل طموحات وأحلام ما بعد الحسن الثاني...

أن أستحضر وجه الحنصالي وهو يقارع الجيش الاستعماري الفرنسي ولا له دعمٌ ولا جدارٌ يسنده سوى الجميلة زوجته "إيطو"، تمده بالسلاح والذخيرة...

أو المهدي بنبركة في التزامه وركضه في صراعٍ مستميت ضد الساعة من أجل تحقيق مصير آخر وعصر مغاير...

أو علال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد وأبراهام السرفاتي وإدريس بنزكري وماما آسية وسعيد المنبهي وآخرين وأخريات مما لا حصر لهم في لوائح الزمن...

أو هو عبد الكريم الخطابي، الذي استطاع إخضاع قوتين استعماريتين زمنا ليس باليسير بإمكانيات متواضعة وألحق بهما خسائر فادحة مقدما بذلك للعالم أجمع صورة عما يكون عليه الإقدام والكرامة مجتمعين، مع استمراره في الكفاح بطرق أخرى حين خذلته موازين القوى...

هو كذلك الشهيد الراشدي، المقاوم الشاب المحكوم بالإعدام من طرف المستعمر وهو يصر أمام كتيبة الإعدام، التي تستعد لتملأ صدره بالرصاص، على ألا يضع على عينيه خرقة المعدومين، كي يرى سماء وطنه-وطننا الغالي للمرة الأخيرة قبل إن يسلم الروح،

هو اليوم اللاينسى يوم تأسيس منتدى الحقيقة والإنصاف، هو الألم الصاعد من تازمامارت، هو المسيرات بالآلاف من أجل فلسطين، هو التحدي الذي رفعه إدريس البصري في وجه مؤسسي المنظمة المغربية لحقوق الإنسان يوم منع مؤتمرها التأسيسي، ثم النضال الذي رافق وأعقب ذلك إلى حين لحظة التأسيس التي جعلت المنظمة فاعلا حقوقيا بيننا منذ ثلاثين عاما...

هي قلعة مكونة مدينة الورد رغم كل شيء، رغم الآلام التي قاساها المناضلون الشباب هناك سنينا طويلة خلال السنوات المسماة "سنوات الرصاص"...

هو طرب الملحون، هو الموسيقى الأندلسية، هو الصرخة التي أطلقتها "الشيخة خربوشة"، هي الطقطوقة الجبلية في أعالي هضاب جبالة...

هي "القمر الأحمر" لعبد السلام عامر أو "رقصة الأطلس" للراشدي أو "أومالولو" لفويتح أو "علاش يا غزالي" لعبد الرحيم السقاط

هي أشعار المجاطي أو عبد الله راجع أو أزايكو والآخرين...

هو التوق الحداثي الجارف، الذي استبق زمانه، وأدى أصحابه الثمن الغالي حين نحتوه في الحجر وجاء على شكل لوحات تشكيلية خالدة لدى الشرقاوي أو لدى الشعيبية أو بلكاهية أو محمد شبعة والآخرين...

هو ألمعية العربي بنمبارك وأقصبي... كمساهمة في الكفاح التحرري على ملاعب أوروبا ضد عتاة العالم إذاك، قبل ن يسلموا المشعل إلى عباقرة الكرة من قامة علال قسو والضلمي والآخرين...

هو الأسواق الأسبوعية بالآلاف على امتداد التراب الوطني، تؤثثها صينيات الشاي المنعنع المثقل بالسكر وفطائر الإسفنج المقلية في الزيت والبيض المسلوق حتى يكاد يصير حجرا مما أصابه من نار...

هو الفواكه والخضر على الأشكال والألوان: هو القرعة الدكالية ودلاح الشاوية وعنب مكناس قبل أن يخضع للامتدادات المشتهاة لدى عشاقها، هو موز ربعة وربعين وحب الملوك صفرو وتفاح زايدة...

هو أن تركن للانسجام حين يذكر "كسكس" السهول أو "طواجين" الأمازيغ أو "مروزية" فاس أو "طنجية" مراكش...

هو مرور الفرسان وهم يتمايلون أمام آلاف المتفرجين قبل أن ينتظموا في صفوف متراصة بالملمتر ثم ينطلقوا في الفنطازيا التي لا تشبهها سمفونية أبدا...

هو الجيل الجديد الذي نشعر به على حوافي البلد وهو لا يعتزم التحلي بتعقل وواقعية الجيل الذي سبقه،

هو الوعي المواطني المتعدد الأوجه الذي يولد تحت أعيننا اليوم،

أن تكون مغربيا اليوم يعني أن تكون متشربا للشذا الذي يحمله الزمن المنفلت الذي يمرق ولا يعود أبدا...

هو في النهاية أن نقدر حق قدره المسير الذي ينتظرنا من أجل تحقيق حداثة نستحقها، حداثة تشبهنا بعد كل ما مر علينا من قهر على مر التاريخ...

*نص منشور في صيغته الفرنسية بمجلة "زمان" – غشت 2018.