عبد اللطيف وهبي: اقتصاد منهار ورأسمال مزدهر

((السياسة كالخطيئة يخرج منها الفقير جشعاً والغني وحشاً)) عمرو الجندي

بمناسبة فعاليات الدورة الأخيرة للمهرجان الثقافي لأصيلة، ساهمت في نقاش متميز حول موضوع الديمقراطية في الأنظمة العربية، برفقة نخبة من المثقفين العرب، فللسيد الوزير محمد بنعيسى قدرة كبيرة على حسن انتقاء المواضيع وكذلك المتدخلين.

كانت تدخلات المفكرين والمثقفين حول وضعية الديمقراطية في العالم العربي، تنصب على جانب الأخطار المحدقة بها، ومنها الأخطار الكلاسيكية وتتجلى كالعادة في تغول الدولة وضعف الناخب، وتقلبات الإملاءات الخارجية، وطبيعة علاقة كل نظام مع الديمقراطية.

في الحقيقة، وإن كنت متفقا تماما مع هذه العوامل "القديمة الجديدة" التي دأبت التأثير في تحقيق الديمقراطية داخل الوطن العربي، غير أني حاولت تسليط الضوء على معطى أظنه صار في الوقت الراهن من أخطر الوسائل على الديمقراطية، ألا وهو الرأسمال، فهذا الأخير بدأ يتسرب إلى السياسة عبر منافذ عدة إن لم أقل بدأ يتحكم في مفاصلها، مستغلا بذلك ضعف الديمقراطية نفسها، وانهيار الإيديولوجيات، وفشل الأحزاب الكلاسيكية عن مواجهة الفكر الشعبوي.

فطرحت خلال هذا اللقاء سؤالا حول مدى وطنية هذا الرأسمال، الذي يجني أرباحا باهظة من خلال استعمال كل الوسائل التجارية، قبل أن يضيف إليها السياسية، ولكن بشكل رديء، وفي المقابل، حينما يطلب منه أن يضحي من أجل استقرار البلد ومن أجل الرفع من المستوى المعيشي للمواطنين، يتلكأ و يتمسك بمصالحه الضيقة.

إن تشبث وأنانية الرأسمال المحلي في مراكمة أرباحه دون مراعاة التوازن الاجتماعي، بات يطرح أكثر من سؤال داخل مجتمعنا وتجربتنا المغربية، فهل هذا الرأسمال يدرك جيدا دوره الوطني؟ وكيف يمكنه أن يكون وطنيا وهو كلما اقتربت الأزمة الاقتصادية وحتى السياسية من البلد إلا وتحكم فيه جبنه، فإما ينقل أمواله إلى الخارج، وإما ينضم إلى مؤسسات دولية من أجل أن تكون مصدر قوته للضغط على الحكومة؟ أو يختار الهروب نحو مجالات الإعفاءات الضريبية المصنوعة بواسطة قوانين المالية التي يمررها من خلال أحزابه بالبرلمان؟.

إن أخطر ما يهدد الاستقرار الاجتماعي، هو توظيف الرأسمال المحلي للأحزاب التي ينتمي إليها، وكذا الآليات التي تسمح بها الديمقراطية من أجل حماية مصالحه والدفاع عنها دون مراعاة باقي طبقات المجتمع، وهذا ما يجعل الطبقة الوسطى والفقيرة بالمغرب تشعر بأن هذه الديمقراطية لا تحقق العدالة الاجتماعية فحسب، بل تسمح كذلك للرأسمال أن يتجبر ويتقوى عنها، بدعوى أن الأغلبية الحكومية هي من تضع الميزانية السنوية و حتى المخططات التنموية، ومن تم يتحكم في الاقتصاد ويتحكم في الأغلبية، أي في السياسة.

فكيف نفسر أن الدولة بكل ما لها من قوة وقدرات تغرق في الديون الدولية والداخلية؟ وتجد نفسها في مأزق مالي ومحاسباتي لتنفيذ التزاماتها المعلنة؟ بينما يزداد الرأسمال المحلي قوة ومناعة وأرباحا تتجاوز المعقول، وكأن المؤسسات الرسمية قد اختزل دورها في ضمان مساهمة فعالة له لمراكمة الأرباح والأموال. في مقابل ذلك، لم يركن للرأسمال المحلي جفن وهو يستعمل وسائل الدولة دون الاهتمام بردود الفعل، أو حتى مراعاة للنتائج التي يمكن أن تكون سلبية على علاقة الدولة بالمواطنين البسطاء.

إن حملة المقاطعة الأخيرة التي كانت محاكمة علنية للرأسمال المحلي، أكدت أن الوطن للجميع و مسؤولية الجميع، وليس مصدر ثراء البعض وتفقير البعض الآخر، وأن الهوة السحيقة أصبحت موضوع احتجاج داخل وسائل التواصل الاجتماعي، وبعثت هذه المقاطعة برسائل واضحة سواء للرأسمال المحلي أو للدولة، وهي ضرورة الحد من هيمنة اللاتوازن واللاتعاضد، وإعادة التوازن للوضع الاقتصادي بهدف ضمان عيش كريم للجميع داخل هذا الوطن.

من جهة أخرى، إن اتخاذ القرارات الكبرى مثل التراجع عن دعم المقاصة وإصلاح التقاعد وحرية الأسعار، هي قرارات في صالح الرأسمال، جعلته أقوى من أية مرحلة سابقة، وذلك نتيجة خطابات شعبوية دامت سبع سنوات حملت خلالها الحكومة شعارات اجتماعية كبرى ظاهريا، لكنها في حقيقة الأمر لا تخدم سوى الرأسمال، لذلك يحق لنا في الوقت الراهن، الخوف على الديمقراطية وعلى الوطن من الرأسمال أكثر من أي شيء آخر.

إننا نعيش في ظل حكومة "اجتماعية" تتحكم فيها أغلبية في خدمة الرأسمال المحلي، لذلك لم أصفه بالرأسمال الوطني، بل سيظل محليا إلى أن يعلن أمام الملأ أنه سيتحمل عبئ إنقاذ البلد اقتصاديا، آنذاك ربما يكون رأسمالا وطنيا.