إدريس بنيعقوب: خطاب العرش في ثلاث عناوين سياسية كبرى

مقارنة مع العام الماضي، يمكن تصنيف خطاب العرش لهذه السنة 2018، في الذكرى 19 لتربع الملك محمد السادس على عرش المملكة المغربية، ضمن الخطب المعتدلة و المتوازنة مقارنة مع خطب كانت إلى حد ما “لوامة” للفاعلين العموميين، وللسياسات العمومية.

 

وبنظرة خاطفة على بناء خطاب العرش للسنة الماضية، يتبين كم كان النقد الملكي حادا وقويا للطبقة السياسية، حين وصفها بفاقدة الثقة وغير قادرة على إبداع حلول اجتماعية. كان ذلك بمناسبة الحديث عن المشاكل الإجتماعية التي عرفها المغرب مابين سنة 2016 وسنة 2017 وتحديدا الأزمة الاحتجاجية في مدينة  الحسيمة ومحيطها.

 

غير أن خطاب هذه السنة تميز بنوع من الاعتدال والرفق بمؤسسات الوساطة السياسة والاجتماعية. ويمكن تلخيص العناوين الكبرى لهذا الخطاب في ثلاث محاور رئيسية هي كالآتي. 

 

العنوان الأول هو محاصرة الخطاب الشعبوي الذي أصبح يتغذى بالخطب الملكية، بل ويستعملها كحجة في توجيه رسائله إلى المغاربة. فمثلا خطاب العرش لسنة 2017 والذي قرع فيه الملك الطبقة السياسية تقريعا غير مسبوق، استعمله دعاة ومروجي الخطاب العدمي والشعبوي كحجة لتعزيز موقفهم، بل و كدليل قاطع على أحقية أطروحاتهم في فشل الدولة والأحزاب في تأطير وتلبية حاجيات المغاربة. 

 

إلى ذلك، هناك خطب ملكية أخرى سارت في اتجاه تقريع السياسات العمومية وانتقادها بشكل ملفت للنظر، الشيء الذي اعتمد عليه مروجو خطاب عدم الثقة في الدولة والحكومة والأحزاب والمؤسسات، كوقود لتطعيم موقفهم من عدم جدوى الاستمرار في إعطاء المصداقية للدولة ومؤسساتها.

 

بذلك يمكن القول أن منظومة بناء الخطاب السياسي الملكي، تنبهت لهذه الثغرة وحاولت استدراك الخطأ، بعدم منح فرص أخرى للخطاب الشعبوي للإقتيات بالخطب الملكية.

 

المحور الثاني هو امتداد للمحور الأول يمكن تقسيمه إلى مستويين. 

المستوى الأول مرتبط بإرجاع الثقة إلى أدوار الوسائط المؤسساتية، الحكومية، السياسية والاجتماعية. هذه الوسائط المشكلة من حكومة، أحزاب سياسية ونقابات اعتبرها الملك محمد السادس في خطابه، مؤسسات موثوق فيها ومطلوب منها مزيدا من العمل والتنسيق من أجل تحقيق انتظارات المجتمع ككل. 

من هنا يمكن القول أن هذه الوسائط التي ظلت منذ مدة، محط انتقاد في تصريف وتطعيم المخرجات السياسية العمومية الاجتماعية، عادت من جديد في المنظور الملكي إلى واجهة الاعتراف بالوساطة، قطعا للطريق أمام المزايدات الشعبوية التي تبخس عمل المؤسسات وباقي الفاعلين المؤطرين للحياة العمومية. وعلى هذا السبيل، استقر رأي الملك على ضرورة مأسسة الحوار الاجتماعي بين  النقابات والفاعل السياسي والحكومي، كحل أمثل لامتصاص انتظارات الشارع الاجتماعية وتخفيفا للضغط على الدولة. ويأتي هذا التركيز على الجانب الاجتماعي من منظوره أصبح يجسد نقطة اشتباك حقيقية مع المجتمع وتهديدا للاستقرار العام للدولة وللنظام السياسي ككل.

وتبعا لذلك ياتي المستوى الثاني حين وجه الملك باقي الفاعلين السياسين وللحكومة، لإيجاد صيغ بعيدة المدى، للتنسيق في بناء السياسات العمومية، صيغ تتجاوز الزمن الحكومي الراهن إلى زمن الدولة والمجتمع  المتميز بالاستمرارية. يستند هذا المعطى على كون النظام الملكي المغربي هو نظام يهدف إلى خلق جو من الاستقرار و الأمن العام في المعاملات على المدى البعيد، وأنه لا يجوز طبقا للزمن الملكي المرهون بالدوام أن يتعرض من حين لآخر لاهتزازات اجتماعية بسبب خطط حكومية قصيرة المدى، لا تستجيب لمقتضى الديمومة، ورهينة لمنطق سياسوي انتخابي.

الملكية مختصة أساسا بدعم دورها في خلق الترتيبات الكبرى لاستقرار واشعاع الدولة المغربية. من هذا المنظور لا يمكنها أن تتدخل من حين لآخر، بناء على طلب الحكومة أو بناء على حالة استعجال حكومية،  في وظائف تنفيذية قصيرة الأمد، أو بالنظر إلى أزمات اجتماعية بسيطة يمكن تبني سياسات قطاعية لضبط وتيرتها على المستوى البعيد، بدون تدخل الملك تدخلا مباشرا.

المحور الثالث والأخير هو عودة الملكية التدبيرية التشريعية، من خلال المشاركة المباشرة في صناعة القاعدة التنظيمية والتشريعية بشكل مفصل، أقوى وأكثر إقناعا، إلى جانب المشاركة الدقيقة في صنع السياسات العمومية.

فعندما يتحدث الملك عن جزئيات التنظيم والتشريع فيما يتعلق بملفات الاستثمار، ويتناول تحديد آجالات الإجابة على مطالب المستثمرين، والذي حدده في خطاب العرش،في أجل شهر، فإننا أمام عمل تشريعي، وصناعة تفصيلية للقاعدة القانونية. أيضا تناول الملك بشكل دقيق ملف الاستثمار و ضرورة مواكبة المقاولات الصغرى والمتوسطة في تفعيل مخرجات الحوار الاجتماعي.

هذه المقاولات الصغرى والمتوسطة هي عمق المجتمع، و هي التي تتعامل بشكل متصل ومستمر مع جميع فئاته. 

تشكل هذه المقاولات 95% من نسيج التقاول بالمغرب حسب خطاب الملك، وهي التي تجد صعوبة في تبني قرارات الدولة في المجال الاجتماعي. فإذا كانت المقاولات الكبرى لا تجد صعوبة في تنزيل مخرجات الحوار الاجتماعي مثلا، من زيادة في الأجور وغيرها، لتوفرها على الإمكانات اللازمة، فإن المقاولات الصغرى والمتوسطة لا تملك من القدرات ما يأهلها للتعاطي، بنفس درجة المقاولات الكبرى مع المطالب الاجتماعية، وتحتاج إلى مواكبة من قبل الحكومة للتمكن من ذلك، باعتبار أن هذه المقاولات الصغرى والمتوسطة قادرة على نزع فتيل توترات اجتماعية كبيرة ومتعددة.

تلكم أهم أبرز الرسائل السياسية في الخطاب الملكي لعيد العرش 19، وأهم الرسائل التي يتعين على باقي الفاعلين السياسيين التقاطها بعناية، قصد تحديد مستوى النظر العمومي للفترة المقبلة.

*ادريس بنيعقوب باحث في العلوم السياسية.