عادل الزبيري:من مدينة الحسيمة.. من أجل المغرب

عادل الزبيري

مررت عليه 4 مرات في يوم واحد، في الحي القديم لمدينة أصيلة في شمال المغرب، كان صوت العاهل المغربي محمد السادس في خطاب عيد العرش يتردد بقوة في باب الحومر.

فبجرعة كبيرة من الصراحة، أعلن الملك محمد السادس، في أهم خطاب في السنة، لكل المغاربة، أن البرامج الاجتماعية تتواجد في غرفة العناية المركزة، أي أنها فشلت في تلبية احتياجات المواطنين المغاربة

كما واصل الملك المغربي تأطير مفهوم الانتماء إلى الوطن المغرب؛ لأن انتشار الفوضى خسارة للوطن وللمواطنين، و"المغاربة الأحرار" يرتفع إيمانهم بالوطن في لحظات الأزمة بعيدا عن التأثر بالتقلبات.

ففي تفاعل مع مطالب المواطنين المغاربة، المعبر عنها عبر مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي، أو في الأشكال التعبيرية الاحتجاجية واقعيا؛ وضع العاهل محمد السادس الأصابع على الخلل في المربع الاجتماعي، لأنه الأكثر إلحاحا في مغرب اليوم؛ الصحة والتعليم والشغل والتنمية البشرية، أي محاربة الفقر والهشاشة والإقصاء الاجتماعي.

واختار الملك المغربي مدينة الحسيمة، لإلقاء خطاب عيد العرش، لأن المدينة ارتبطت بِحَراك الاحتجاجات الاجتماعية، التي طالبت بالطريق وبمستشفى لمحاربة السرطان وبالجامعة وبفرص الشغل وبفك كل أشكال العزلة.

فقراءة خطاب عيد العرش من مدينة الحسيمة، منارة المتوسطي، "رسالة اجتماعية تضامنية شُجاعة"؛ من الملك محمد السادس، ضد كل الظلاميين من الراغبين في إحداث "قطيعة جديدة" بين الحسيمة والريف وبين الملكية المغربية.

وفي قراءتي، انتصر مغرب المصالحات من جديد، في انتظار مخرج بمنطق رابح رابح، في انتصار لمستقبل المغرب، لملف شباب الاحتجاجات الاجتماعية، الذين لا يزالون في السجن في مدينة الدار البيضاء.

تختلط الألوان في المشهد، في طريقي صوب مدينة الحسيمة، فبين قمم جبال الريف؛ انهار التراب الرمادي اللون، لأن حرارة الصيف وصلت، فيما الشتاء الطويل كان جزيل العطاء، فغطى اللون الذهبي للسنابل كل الحقول، فيما الغابات تزينت بالخضرة النضرة

لا أنكر أن رحلة ال 7 ساعات، من الرباط، للوصول للحسيمة، تحتاج صبرا جميلا وتحملا، ولكنها رحلة تختلط فيها متعة المناظر الخلابة، بغابة أسئلة مقلقة حيال مخارج ممكنة لملف الاحتجاجات الاجتماعية في مدينة الحسيمة.

وميدانيا، لا تزال الجرافات الضخمة، تشتغل لفتح مقاطع الطريق بين تازة والحسيمة، فيتصاعد جبل من غبار، فيما لاحقا تسهل السياقة على مقاطع طرقية ثنائية اكتملت في الإنجاز.

هنالك في الساحة الكبرى في مدينة الحسيمة، عبر البحر الأبيض المتوسط، عادت بي الذاكرة الليلية إلى العام 2008، تابعت هنا استعراضا جماعيا، لخيالة الحرس الملكي، في سياق الاحتفالات بعيد العرش.

كما ألقى العاهل المغربي محمد السادس، خطاب عيد العرش من جوهرة المتوسطي، أي مدينة الحسيمة.

فعاشت الحسيمة في ذلك الصيف، لحظات تاريخية، غير مسبوقة في تاريخها، منذ الاستقلال، في "التحام جماعي" يعكس "اتفاقا اجتماعيا شعبيا"، ولو غير مكتوب على ورق، ولكنه جاء ب "نبضات حب من قلب"؛ بين الملكية المغربية، وبين الجماهير الشعبية لمدينة الحسيمة.

وتحول هذا "الاتفاق الاجتماعي" لاحقا لود صيفي سنوي متواصل، ولخروج المدينة المتوسطية من هامش الهامش السياسي والاجتماعي المغربي، ومن سنوات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، إلى الصفوف الأولى في مغرب "العهد الجديد"، وزمن "مصالحة الأمس وإنصاف الجراح".

ففي 19 عاما، نجح المغرب في تسجيل انتعاش اقتصادي غير مسبوق منذ الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي والإسباني.

كما نجح المغرب بتفوق في تنفيذ أوراش كبرى مُهيكلة، ولكن للأسف الشديد، بقي الملف الاجتماعي بثقله الإنساني معيقا، ليس لأن ما جرى تنفيذه من مشاريع للتنمية البشرية ضعيفا جدا، ولكن لأن الاحتياجات كبيرة عند مغاربة ينتظرون نصيبهم من التنمية وتشرأب أعناقهم لمغرب أفضل.

فبعد أن كان الفقر مرتبطا بالقرى، ظهر مرض اجتماعي جديد، باعتراف رسمي مغربي، اسمه الهشاشة الاجتماعية: أي الفقر المقنع في المدن المغربيةò

يمر فوق رأسي ليلا في مدينة الحسيمة، سرب من النوارس البيضاء اللون، في اتجاه البحر الأبيض المتوسط، أتذكر أني مشتاق لوجبة سمك سردين حُسيمِي.

ولا زلت شخصيا مؤمنا أن في الحسيمة يقع مخاض عسير، يسبق إطلاق سراح لجيل جديد من الإصلاحات المغربية الحقوقية والسياسية والاجتماعية، في سياق المناخ العام المغربي، لمسلسل المصالحات المفتوحة والمستمرة.

كما يحتاج وطني المغرب، لبناء تعاقد اجتماعي جديد، يحدد الجرعات الضرورية؛ لإحداث توازن بين النمو الاقتصادي سنويا وبين التنمية الاجتماعية البشرية.

أعرف أنني حالم وردي، ولكن في تقديري الشخصي، علمني وطني المغرب، أن المستحيل دائما ممكن مغربيا.

ومع ملف الحسيمة الاحتجاجي، يقف المغرب على عتبات حاجة لإطلاق مسلسل جديد، لتأهيل سياسي شامل في المغرب، يبدأ من الأحزاب السياسية، التي أصبحت بيوتا خاوية بلا سكان.

وهذا في توازي مع رد الاعتبار لمؤسسات الوساطة الاجتماعية، وأولها منظمات المجتمع المدني غير الحكومي في المغرب، باعتبارها قوة خامسة وناعمة.

كما تفرض الاحتجاجات الاجتماعية في المغرب، استعجالية ولادة مدرسة تعليمية مغربية تُنتج القِيمَ، بعيدا عن التجارب السابقة الفاشلة التي ارتكنت للتلقين الميكانيكي الجاف.

وأرجو صادقا أن الكتابة لا تزال تمرينا جماعيا ممكنا في المغرب، لإيصال أفكار يمكن الاتفاق أو الاختلاف معها، لأن زراعة الآمال مهنة تبقى دائما صعبة.

ففي حكم الملك محمد السادس، طيلة 19 عاما، تحققت أحلام كبيرة غير مسبوقة في المغرب.

كما انتعشت أجيال من الآمال، ونبتت زهور للإنصاف والمصالحة، ولا يزال قطار المصالحات مواصلا طريقه، بالرغم من لحظات التأخير والتعتر.

ففي تاريخ كل الشعوب، تأتي لحظات للمخاضات الصعبة، ولكن الوطن المغربي يحتاج لكل الإرادات البناءة، لتجاوز الأصعب، صوب محطات الأمان، عبر زراعة جماعية لحقول الأمل.

فمشوار بناء المغرب الجديد متواصل، في تقديري الشخصي، تحت مظلة حكم الملك محمد السادس، والحاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، تظهر لإطلاق مسلسل عدالة اجتماعية جغرافية؛ تمكن الجميع في أعالي الجبال وفي أقاصي السهول، من الاستفادة من مشاريع للتنمية البشرية، ومن فرص للشغل، ومن جرعات كبيرة من الأمل ومن الكرامة.

ففي السنوات العجاف، يحتاج وطننا المغرب إلى محاربة تجار الوهن والوهم واليأس، وإلى الاستثمار في الفلاحين من زَارِعِي الآمال، في كل فصول السنة.

يجب أن نتذكر أن المخاضات العسيرة، أنتجت الانتقالات الكبرى في المغرب.