قضايا

كأسك يا وطن... إبراهيم إغلان: معنى العيش في مدينة ديمقراطية

     كل من يزور العاصمة، الا ويلاحظ تهور الناس الراجلين، وهم يقطعون الشارع عرضا وطولا دونما انتباه الى اشارات المرور، وكأن الشوارع  حكر على الراجلين فقط. صحيح أن هذا السلوك بات عاما في مختلف المدن المغربية، لكن في الرباط أصبحت هذه الظاهرة مثيرة للاشمئزاز. سلوك غير حضاري، لا أحد يجرؤ على مناقشته،  لست أدري كيف تأخرنا كثيرا في التعامل والتواصل في الفضاء العمومي،  بل أصبحنا نتعامل مع هذا الفضاء بعنف شديد. وقد يزداد الوضع تأزما، حين يحتل هذا الفضاء من قبل المحتجين والغاضبين و " الفراشة" الذين انتشروا في الازقة والشوارع الرئيسية والثانوية وحتى الضيقة منها، وامام اعين السلطات المحلية، هذه الاخيرة التي لم تجد بدائل واقعية لمثل هذه الظواهر التي تسيء الى المنظر العام للمدينة.

    نحن إذن أمام سلوكيات فردية ، أخذت طابعا جماعيا،  وتحولت بين عشية وضحاها الى عادة مجتمعية، وبالتالي الى أمر واقع، يصعب مقاربته بعصى موسى. وتلك إحدى مميزات سياستنا المحلية التي تفتقد الى الابداع، والبحث عن حلول جذرية لعاهاتنا الحضرية، التي تتكاثر وتتناسل أمام أعيننا يوميا في فضاءاتنا العمومية.

    مرة أخرى أتساءل: لماذا نمارس كل هذا العنف الرمزي والواقعي على فضائنا العمومي، وكأنه غريب عنا، أو نحن غرباء عنه؟؟  هل مرد ذلك الى التربية والتعليم؟ أم الاسرة التي علمتنا فقط كيف نحب فضاءنا الخاص ونكره خارجه؟ هل المدينة ذاتها غير قادرة على ادماجنا في فضاءاتها المتعددة؟  أم أن الامر أعمق وأبعد من كل هذه المسببات؟ ربما يجوز هذا وذاك، لكن الواضح أننا نعيش اليوم خصاما حقيقيا مع مدينتنا ووظائفها وحمولاتها الجمالية والاجتماعية والرمزية. ولعل أهم أسباب هذا الخصام: سوء تدبير مجال المدينة ، والذي حكمته وسيجته سلطة ما بعد الاستقلال، ولازالت بعض أوجه هذه السلطة حاضرة بقوة في تحديد مصير المدينة. فعوض أن تتحول المدينة الى فضاء ديمقراطي، أي أن تتمكن الساكنة من تدبير مجالاتها العمرانية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية،  أصبحت المدينة مع الاسف حاجزا وعطبا أما كل  تغيير وتفكير في سياستها.

     وفي الوقت الذي استبشرنا خيرا منذ مبادرة حكومة عبد الرحمان اليوسفي، والمتمثلة أساسا  في وضع سياسة جديدة للمدينة، بعد اطلاقها سلسلة حوارات حول المدينة،  فوجئنا كعادتنا إزاء أي تحول أو انتقال من شأنه خلق قطيعة مع سياسات التحكم والهيمنة،  بتراجع مخيف في المنجزات . وظلت الرباط مدينة صراع سياسي، كلنا يعرف كيف تم تدبيرها وبأية وسائل .." والمول المليح باع وراح" كما يقول هذه المثل المغربي الرائع. ولازالت حليمة على عادتها القديمة، كما يقول المثل العربي المعروف...

     ومرة أخرى، عوض أن تستفيد الرباط من وظائفها الادارية والسياسية والعلمية والثقافية لتوحيد أحيائها، في اطار مدينة للجميع،  توسعت الهوة بين أجزائها، فاستغلت أحياء الهامش للانتخابات، وكأنها قاعدة احتياطية أساسية للوصول الى مجالس بلدية ومجلس مدينة، كل "يغني على ليلاه"، ولم يعد، بالتالي ما يربط أحياء المدينة،  سوى تصاميم تهيئة فارغة من فلسفة حقيقية لوحدة المدينة، وخطابات كلامية جارحة في حق الاختلاف الطبيعي للوجود الديمقراطي.

    لقد شكل هذا العطب الديمقراطي صفة بارزة لمعنى العيش في كنف مدينة مركزية للمغرب،  ولعل هذا ما يفسر في نظرنا حدة الخصام أو العنف الذي أصبحنا نمارسه في حق فضاءنا العمومي. ذلك أن المدينة، ليست مجالا حضريا، تتعايش فيه أنماط عتيقة وحداثية، بل هو أيضا مرجع حضري، يختزل تفكيرنا وثقافتنا وسلوكنا.

   ما يقع اليوم في الرباط، بغض النظر عن بعض المنجزات هنا وهناك،  بعيد عن المشروع الديمقراطي الذي كنا نأمل تحقيقه، على الاقل في هذه المدينة، لتكون نموذجا لباقي مدن المغرب. فالمدينة الديمقراطية لا يمكن أن تنتج الا مصالحة حقيقة بين المواطن ومجاله، أما حالتنا في مدينة الرباط، فلا زال الخصام متواصلا، وقد يذهب الى أبعد من ذلك، وما الفوضى في مختلف القطاعات والخدمات التي نشاهدها يوميا، الا دليل واضح على ما اشرنا اليه، ناهيك عن سلوكيات المواطنين اليومية التي لا تحترم بتاتا حقوق العيش المشترك في الفضاء العام.

    إنها معادلة صعبة، بين أن نفكر في مدينة ديمقراطية، تقبل الاختلاف في الرأي  والتعبير، وتتفق في الانتماء الى مجال مشترك، وبين أن نترك شؤون المدينة في أيادي مليئة بالتوافقات البالية والسياسات المؤقتة والخصامات المفتعلة...

   معادلة جديرة بالتأمل والتفكير في أن ما وصلت اليه عاصمة المغرب اليوم، هو حصيلة للعبث الذي ساهمنا  جميعا في هندسته، كل من موقعه وموقفه،  وانتجنا بذلك مدينة تائهة،  وفي التيه يظهر خصوم الديمقراطية الذين ينتعشون على فراغنا الفكري واحساسنا بحب المدينة.  وحب المدينة يبدأ من سلوكياتنا في الشارع وفي كل الفضاءات العمومية..